لقد أحاط بي الليل المظلم وأضفى عليَّ الستور فلا أرى شيئاً، فكأن قطع ظلمته أمواج البحر الهائلة، وعندما حجب الرؤية عن عيني أخذت الهموم تنتابني من كل جانب ولكني صبرت لها.
لقد خاطبت الليل عند ما أخذ يمدد جسده؛ فتارة يعرض ظهره وأخرى يجعل عجزه يتبع أوله وثالثة يحاول النهوض والزوال فلا يستطيع، خاطبته قائلاً: انكشف وزل أيها الليل الطويل واترك الصبح يظهر فيريحني، ثم رجعت إلى نفسي فعرفت أن همَّ الصبح يماثل همّ الليل.
(4) المغار: المحكم الفتل. يذبل: جبل في عالية نجد ويعرف اليوم بصبحا.
إنني أبدي عجبي منك أيها الليل؛ فكأن نجومك ثبتت في أماكنها لا تبرحها وكأنها ربطت بحبال قوية في جبل يذبل.
(5) مصامها: مرضعها. الأمراس: جمع مَرَس وهي الحبال المفتولة. الصم: الصلب. الجندل: الحجارة.
وإذا نظرت إلى الثريا وجدتها ثابتة في مكانها فكأنها قد ربطت بحبال كتان إلى حجارة صلبة.
(6) أغتدي: أخرج بفرسي عند تباشير الصباح. وكناتها: أعشاشها.
المنجرد: الفرس القصير الشعر. الأوابد: الوحش. الهيكل: الفرس الطويل الضخم.
إنني أعرف وقت الخروج للصيد فأنا أباغته صباحاً قبل أن تغادر الطيور أعشاشها ووسيلتي لذلك ركوب حصان اكتمل خلقه فهو طويل وضخم.
(7) الجلمود: الصخر الأصم.
وحصاني معتاد على الكر والفر، فهو يقبل ويدبر ويراوغ الوحش فإذا رأيته في معركة مع الفريسة ظننته قطعة حجر دحرجها السيل من أعلى إلى أسفل.
(8) كميت: أحمر يميل إلى السواد. اللبد: ما يوضع من قطع الصوف على ظهره. الصفواءِ: الصخرة الملساء. المتنزل: المطر.
ذلك الحصان لونه أحمر يميل إلى السواد وهو مكتنز باللحم والشحم، فإذا وضعت شيئاً على ظهره فإنه ينحط عنه كما ينحط المطر من على الصخرة الملساء.
(9) مسح: كثير الجري. السابحات: التي تسبح في جريها. الونى: الإعياء. الكديد: ما صلب من الأرض. المُركَّل: ما ركلته بقوائمها.
إن حصاني يسير سيراً سريعاً عند ما تفتر الخيل وتتعب فتضرب الأرض بحوافرها من شدة التعب، فإذا رأيته مع تلك الخيل فكأنه يسبح في الهواء لسهولة سيره.
(10) الخف: الخفيف الجاهل بالركوب. الصهوة: موضع الفارس من ظهر الفرس. العنيف المثقل: الذي لا يحسن الركوب.
إذا حاول الغلام الخفيف ركوب ذلك الجواد زلق عن ظهره وإذا حاول ركوبه الثقيل لوى بثيابه فطرحه وذلك لسرعة عدوه، وإنما يركبه الفارس المتمرس في ركوب الخيل.
(11) الأيطل: الخاصرة. إرخاء: سرعة في لين. التقريب: دون العدو. تتفل: ولد الثعلب.
لقد أخذ جوادي الصفات الحميدة من كل حيوان أو طير فخاصرته ضامرة تشبه خاصرة الظبي، وساقاه طويلتان تشبهان ساقي النعامة، فإن عدا وأسرع أشبه الذئب، وإن تراخى في عدوه أشبه الثعلب.
(12) عن لنا: عرض لنا. السرب: القطيع من بقر الوحش. النعاج: البقر الوحشية البيض. عذارى دوار: عذارى يدرن حول صنم. الملاء المذيل: الثياب الطويلة الذيل.
لقد عرض لنا قطيع من بقر الوحش البيض طويلات الأذناب وهن يطفن حول بعضهن فإذا نظرت إليهن فكأنك تشاهد مجموعة من العذارى قد أرخين ذيول ملاءاتهن البيض وهن يطفن بصنم.
(13) الهاديات: طلائع بقر الوحش. جواحرها: المتخلفات منها. في صرة: في جماعة، تزيل: تؤرق.
لقد ألحقنا ذلك الفرس بأوائل الوحش أما أواخرها فقد تجاورها وهي مجتمعة لم تتفرق بعد؛ لأنه باغتها بسرعة عدوه.
لقد أسرع ذلك الحصان إلى الوحش حتى جال جولة بين الثور والنعجة فجمع بينهما وأدركهما معاً، وهو في رحلته هذه لم يتعب ولم يظهر العرق على جسمه.
(15) الطهاة: الطباخون صفيف: شرائح مصفوفة لتمضج على الحجارة. قدير: مطبوخ في قدر.
عندما توافر الصيد وكثر اللحم بدأ الطباخون في عمل الشرائح الرقيقة فوضعوها على النار، ثم أعدوا القدور لطبخ اللحم، فاللحم كثير منه ما يشوى ومنه ما يطبخ .
(16) الهاديات. المتقدمات من بقر الوحش. عصارة حناء. ماء حناء. مرجل. ممشط.
إذا رأيت ذلك الحصان وهو عائد من رحلة صيد فإنك تشاهد الدم في صدره، فكأن ذلك الدم في صدر الحصان حناء في شعر رجل قد أدركه الكبر.
(17) إن ذلك الحصان يُعد للصيد قبل أوانه فإذا نوى صاحبه الصيد جعله يبيت مسرجاً وملجماً وصاحبه يراقبه من وقت لآخر.
2- تقسيم النص:
إذا نظرنا إلى هذا النص وجدناه ينقسم إلى قسمين رئيسين هما: وصف الليل وطوله، والثاني وصف رحلة صيد على حصان أصيل، ويمكن أن نقسم وصف رحلة الصيد إلى قسمين:
القسم الأول يختص بالحصان، والقسم الثاني يختص بالصيد. وإن كان القسم المختص بالصيد يشتمل على وصف للحصان أيضاً، فأقسام النص إذن ثلاثة:
1- وصف الليل وطوله ويبدأ بالبيت الأول: (وليل كموج البحر) وينتهي بالبيت الخامس (كأن الثريا).
2- وصف الحصان ويبدأ بالبيت السادس (وقد أغتدي) وينتهي بالبيت الحادي عشر (له أيطلا ظبي).
3- وصف معركة الصيد بها فيها بقر الوحشي والحصان؛ في بقية النص.
3- دراسة الأفكار:
يشتمل النص على فكرتين رئيستين: الأولى وصف الليل وطوله، والثانية وصف الحصان ومطاردته الوحش، وبما أن امرأ القيس هو أول شاعر عربي يضع منهج الشعر ويجوده فإننا نعتبر هاتين الفكرتين من الأفكار الجيدة التي سبق الشاعر إليها وأبرزها للناس في صورة شعرية.
وإذا نظرنا في الفكرة الأولى وجدنا أن الشاعر أصاب كبد الحقيقة، فالشاعر واحد من الناس يطول عليه الليل عندما تتكالب عليه الهموم حتى يظن أن النجوم لا تبرح أماكنها، فهو صادق فيما قال، فمثل ذلك الموقف يحدث للكثيرين من الناس، وأما أفكاره التي عبر بها عن إعجابه بحصانه، فهو وإن بالغ بعض الشيء في وصف الحصان إلا أن الناس يتقبلون تلك المبالغات لأنها تعبر عن إعجاب امرئ القيس بحصانه، فهو في بعض أفكاره في وصفه للحصان يبتعد عن الحقيقة ولكنه صادق من الناحية الفنية.
ولأفكار امرئ القيس أثر فعال في المجتمع؛ فالناس يعجبون بها، والشعراء يقلدونه فيما قال على مر العصور؛ فالنابغة الذبياني وهو من كبار شعراء العصر الجاهلي اتبع طريقة امرئ القيس في وصف الليل وطوله، وزهير بن أبي سلمى وهو شاعر الصنعة المعروف تأثر بأفكار امرئ القيس في وصف الفرس كما تأثر به أيضاً كثير من الشعراء.
4- الأسلوب:
إذا نظرنا إلى تقدم زمن امرئ القيس عذرناه في قوة أسلوبه وانتقاء الألفاظ الغريبة التي تحتاج منا في عصرنا هذا إلى إن نبحث عنها في المعاجم مثل (تمطى، جوزه، كلكل، مغار، مصامها، وكناتها، الصفواء، أيطل، تتفل، صرة) وامرؤ القيس يستعمل الألفاظ الغليظة أحياناً مثل (تمطى، كلكل، هيكل، مرجل، أيطلا) ولكن مهارة الشاعر في حسن استعمال هذه الألفاظ أخفت الجفاء الذي يتوقعه القارئ أو السامع منها؛ حيث مزجها بالألفاظ السهلة والرقيقة فكون لنا تراكيب متينة متقنة الصنع؛ فقوله: (وأردف أعجازاً وناء بكلكل) متكون من تركيبين ربط بينهما بالواو ربطاً قوياً فقبلت كلمة (كلكل) لأن الكلمات الأخرى ليست في قوتها وغلظتها فجاءت مقبولة وأدت دورها في قوة التركيب ومن ثم في قوة الأسلوب.
وتراكيب الشاعر خالية من التعقيد أو الضعف الذي ينشأ من حشو البيت بتراكيب تتممه، فالشاعر لا يأتي بالتركيب إلا والحاجة إليه ماسة، ولذلك فإن ألفاظ الشاعر وتراكيبه تبدو عليها الأصالة، والشاعر يستخدم التشبيه كثيراً في أسلوبه مثل قوله: (وليل كموج البحر)، وقوله:
كجلمود صخر حطه السيل من العل
مكر مفر مقبل مذبر معاً
وغير ذلك كثير، وهو يهدف إلى تقريب معانيه إلى المستمع عن طريق التشبيه؛ فالتشبيه يوضح الصورة التي يريدها الشاعر ويقربها، وامرؤ القيس ماهر في صنع الصور الخيالية؛ فالليل صوره في صورة حيوان وهمي؛ له ظهر وعجز وكلكل، وحصانه قطعة حجر دحرجها السيل من عل، والخلاصة: أن أسلوب امرئ القيس هو الأسلوب الرائد للشعراء؛ فقد اقتفوا سبيله واتبعوا طريقه ولولا تمكن الشاعر من فنه لما اقتفاه الشعراء وقلّدوه في أسلوبه.