كتاب أسرار البلاغة المؤلف :عبد القاهر الجرجانى الفصل الثانى الاستعارة
كاتب الموضوع
رسالة
أشرف على
مؤسس الدعم التطويرى
عدد المساهمات : 2842 تاريخ التسجيل : 23/10/2012
موضوع: كتاب أسرار البلاغة المؤلف :عبد القاهر الجرجانى الفصل الثانى الاستعارة السبت نوفمبر 03, 2012 5:27 pm
الكتاب : أسرار البلاغة المؤلف : أبوبكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (المتوفى : 471هـ)
تعريف الاستعارة اعلم أن الاستعارة في الجملة أن يكون للَّفظ أصلٌ في الوضع اللغوي معروفٌ تدلُّ الشواهد على أنه اخْتُصَّ به حين وُضع، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل، وينقله إليه نقلاً غيرَ لازمٍ، فيكون هناك كالعارِيَّة. تقسيم الاستعارة ثم إنها تنقسم أوّلاً قسمين، أحدهُما: أن يكون لنقله فائدة، والثاني: أن لا يكون له فائدة، وأنا أبداً بذكر غير المفيد، فإنه قصيرُ الباع، قليل الاتساع، ثم أَتَكلم على المُفيَد الذي هو المقصود، وموضع هذا الذي لا يفيد نقله، حيث يكون اختصاصُ الاسم بما وُضع له من طريق أريدَ به التوسُّع في أوضاع اللغة، والتنوُّق في مراعاة دقائق في الفروق في المعاني المدلول عليها، كوضعهم للعضو الواحد أساميَ كثيرةً بحسب اختلاف أجناس الحيوان، نحوَ وضع الشفة للإنسان و المشْفَر للبعير و الجحفلة للفرس، وما شاكل ذلك من فروقٍ ربما وجُدت في غير لغة العرب وربما لم توجد، فإذا استعمل الشاعر شيئاً منها في غير الجنس الذي وُضِع له، فقد استعاره منه ونقله عن أصله وجَازَ به موضعَه، كقول العجّاج " وفَاحماً، ومَرْسِناً مُسَرَّجَا " يعني أنْفاً يَبْرُق كالسِّراج، و المَرْسِنُ في الأصل للحيوان، لأنه الموضع الذي يقع عليه الرسن وقال آخر: يصف إبلاً: تسمعُ للماءِ كصوتِ المِسْحَلِ ... بين وَريدَيها وبَين الجَحْفَلِ فجعل للإبل جحافل، وهي لذوات الحوافر، وقال آخر: " وَالحَشْوُ من حَفَّانها كالحَنظلِ " فأجرَى الحَفَّان على صغار الإبل، وهو موضوع لصغار النعام، وقال الآخر: فبِتْنَا جُلوساً لَدَى مُهرِنَا ... نُنَزِّعُ من شَفَتيه الصَّفَارَا فاستعمل الشفة في الفرس، وهي موضوعة للإنسان، فهذا ونَحْوه لا يفيدك شيئاً، لو لزمتَ الأصليّ لم يحصل لك، فلا فرق من جهة المعنى بين قوله من شفتَيه وقوله من جَحْفلتيه لو قاله، إنما يُعْطِيك كِلا الاسمين العضوَ المعلومَ فحسب، بل الاستعارة ها هنا بأن تنقصك جزءاً من الفائدة أشبهُ، وذلك أنّ الاسم في هذا النحو، إذا نفيتَ عن نفسك دخولَ الاشتراك عليه بالاستعارة، دَلَّ ذكره على العضو وما هو منه، فإذا قلت الشفة دلَّ على الإنسان، أعني يدلّ على أنك قصدت هذا العضو من الإنسان دون غيره، فإذا توهمت جَرْيَ الاستعارة في الاسم، زالت عنها هذه الدلالة بانقلاب اختصاصها إلى الاشتراك، فإذا قلت الشفة في موضع قد جرى فيه ذكرُ الإنسان والفرس، دخل على السامع بعض الشبهة، لتجويزه أن تكون استعرتَ الاسم للفرس، ولو فرضنا أن تُعدَم هذه الاستعارة من أصلها وتُحظَر، لمَا كان لهذه الشُبهة طريق على المخاطب فاعرفه.
وأمَّا المفيد فقد بانَ لك باستعارته فائدةٌ ومعنًى من المعاني وغَرَضٌ من الأغراض، لولا مكان تلك الاستعارة لم يحصل لك، وجملة تلك الفائدة وذلك الغرض التشبيه، إلا أنَّ طُرُقه تختلف حتى تفوت النهايةَ، ومذاهبه تتشعب حتى لا غاية، ولا يمكن الانفصال منه إلا بفصول جمّة، وقسمة بعدَ قسمة، وأنا أرى أن أقتصر الآن على إشارة تُعرِّفُ صورته على الجملة بقدر ما تراه، وقد قَابَلَ خلافَهُ الذي هو غير المفيد، فيتمّ تصوُّرك للغرض والمراد، فإن الأشياء تزداد بياناً بالأضداد، ومثاله قولنا: رأيت أسداً، وأنت تعني رجلاً شجاعاً، و بحراً، تريد رجلاً جواداً و بدراً و شمساً، تريد إنساناً مضيء الوَجْه متهَلّلاً و سللتُ سيفاً على العدوّ تريد رجلاً ماضياً في نصرتك، أو رأياً نافذاً وما شاكل ذلك، فقد استعرت اسم الأسد للرجل، ومعلومٌ أنك أفدت بهذه الاستعارة ما لولاها لم يحصل لك، وهو المبالغة في وصف المقصود بالشجاعة، وإيقاعُك منه في نفس السامع صورة الأسد في بطشه وإقدامه وبأسه وشدّته، وسائر المعاني المركوزة في طبيعته، مما يعود إلى الجرأة، وهكذا أفدت باستعارة البحر سَعَته في الجود وفَيْضَ الكفّ، و بالشمس والبدر ما لهما من الجمال والبهاء والحسن المالئ للعيون الباهر للنواظر، وإذْ قد عرفت المثالَ في كون الاستعارة مفيدة على الجملة، وتبيّن لك مخالفةُ هذا الضرب للضرب الأوّل الذي هو غير المفيد، فإني أذكر بقية قولٍ مما يتعلق به، أعني بغير المفيد، ثم أعطف على أقسام المفيد وأنواعه، وما يتصل به ويدخل في جملته من فنون القول بتوفيق اللّه عز وجل، وأسأله عز اسمه المعونة، وأبرأ إليه من الحول والقوة، وأرغب إليه في أن يجعل كل ما نتصّرف فيه منصرِفاً إلى ما يتصل برضاه، ومصروفاً عمَّا يؤدّي إلى سَخَطِه. اعلم أنه إذا ثبت أن اختصاص المَرْسِن بغير الآدمي لا يفيد أكثر مما يفيد الأنف في الآدمي وهو فَصْل هذا العضو من غيره ولم تكن باستعارته للآدميّ مفيداً ما لا تفيده بالأنف لم يتُصوّر أن يكون استعارة من جهة المعنى، وإذا كان مدَار أمره على اللفظ لم يتصور أن يكون في غير لغة العرب، بَلَى، إن وُجد في لغة الفُرْس مراعاةُ نحو هذه الفروق، ثم نقلوا الشيءَ من الجنس المخصوص به إلى جنس آخر، كانوا قد سلكوا في لُغتهم مسلك العَرَب في لغتها
وليس كذلك المفيدُ، فإن الكثير منه تراه في عِداد ما يشترك فيه أجيال الناس، ويجري به العُرْف في جميع اللغات، فقولك رأيت أسداً، تريد وصفَ رجل بالشجاعة وتشبيههُ بالأسد على المبالغة، أمرٌ يَستوي فيه العربيُّ والعجميُّ، وتجِده في كل جِيل، وتسمعه من كل قبيل، كما أن قولنا زيد كالأسد على التصريح بالتشبيه كذلك، فلا يمكن أن يُدَّعَى أنا إذا استعملنا هذا النحو من الاستعارة، فقد عمدنا إلى طريقةٍ في المعقولات لا يعرفها غير العرب، أو لم تتفق لمن سواهم، لأن ذلك بمنزلة أن تقول: إن تركيبَ الكلام من الاسمين، أو من الفعل والاسم، يختصّ بلغة العرب، وإنّ الحقائق التي تُذكر في أقسام الخبر ونحوه، مما لا نعقله إلاّ من لغة العرب، وذلك مما لا يخفَى فسادُه، فإذا ذُكر المجاز، وأُريد أن يُعَدَّ هذا النحو من الاستعارة فيه، فالوجه أن يضاف إلى العقلاء جملةً، ولا تُستعمل لفظةٌ تُوهمُُ أنه مِنْ عُرْفِ هذه اللغة وطُرُقِها الخاصة بها، كما تقول مثلاً فيما يختصُّ باللغة العربية من الأحكام، نحو الإعراب بالحركات، والصَّرْف ومنع الصَّرف، ووضعِ المصدر مثلاً مواضع اسم الفاعل نحو رجلٌ صَوْمٌ و ضَيْفٌ، وجمعِ الاسم الواحد في التكسير عِدّة أمثلة نحو فَرْخ و أفُرخ و فِراخ و فُروخ، وكالفرق بين المذّكر والمؤنَّث في الخطاب وجملةِ الضمائر وما شاكل ذلك، ولإغفال هذا الموضع والتجوّز في العبارة عنه، دخل الغلط على مَنْ جَعَل الشيءَ من هذا الباب سَرِقةً وَأخْذاً حتى نُعِي عليه، وبَيَّنَ أنه من المعاني العاميَّة والأمور المشتركة التي لا فضل فيها للعربيّ على العجميّ، ولا اختصاص له بجيل دون جيل، على ما ترى القول فيه، إن شاء اللّه تعالى في موضعه، وهو تعالى وليّ المنّ بالتوفيق له بفضله وجوده، ولو أن مترجماً ترجم قوله: " وإلاّ النَّعامَ وحَفّانَهُ " ففسّر الحفّان باللفظ المشترك الذي هو كالأولاد والصغار، لأنه لا يجد في اللغة التي بها يترجم لفظاً خاصّاً، لكان مصيباً ومؤديّاً للكلام كما هو، ولو أنه ترجم قولنا: رأيت أسداً، تريد رجلاً شجاعاً، فذكر ما معناه معنى قولك: شجاعاً شديداً، وترك أن يذكر الاسم الخاص في تلك اللغة بالأسد على هذه الصورة، لم يكن مترجماً للكلام، بل كان مستأنِفاً من عند نفسه كلاماً، وهذا بابٌ من الاعتبار يُحتاج إليه، فحقُّه أن يُحفَظ، وعسى أن يجيءَ له زيادةُ بسطٍ فيما يُستقبَل، فاعلم أنك قد تجد الشيء يُخلَط بالضَّرب الأول الذي استعارة من طريق اللفظ ويُعدُّ في قبيله، وهو إذا حقَّقت ناظِرٌ إلى الضرب الآخَر الذي هو مستعار من جهة المعنى وجارٍ في سبيله، فمن ذلك قولهم: إنه لغليظ الجَحافل، وغليظُ المشافر، وذلك أنه كلام يصدر عنهم في مواضع الذّمّ، فصار بمنزلة أن يقال: كأنَّ شفته في الغِلَظ مِشفَر البعير وجَحْفَلة الفرس، وعلى ذلك قول الفرزدق: فلو كنتَ ضَبّيّاً عرفتَ قَرابتي ... ولكنَّ زنجيّاً غليظَ المشافِر فهذا يتضمّن معنى قولك: ولكن زنجياً كأنه جمل لا يعرفُني ولا يهتدي لَشَرفي، وهكذا ينبغي أن يكون القول في قولهم: أنْشبَ فيه مخالبه، لأنَّ المعنى على أن يجعل له التعلُّق بالشيء والاستيلاء عليه، حالةً كحالة الأسد مع فريسته، والبازي مع صيده، وكذا قول الحُطَيئة: قَرَوْا جارَك العَيمْانَ لمَّا جَفَوْتَهُ ... وقَلَّصَ عن بَرْدِ الشَّرابِ مَشَافرهُ حَقُّه، إذا حقّقت، أن يكون في القبيل المعنويّ، وذلك أنه وإن كان عَنَى نفسَهُ بالجار، فقد يجوزُ أن يقصد إلى وصْفِ نفسه بنوع من سُوء الحال، ويعطيها صفةً من صفات النقص، ليزيد بذلك في التهكم بالزِّبرقان، ويؤكّد ما قصده من رميه بإضاعة الضيف واطراحه وإسلامه للضُرّ والبؤس، وليس ببعيد من هذه الطريقة من ابتدأ شعراً في ذمِّ نفسه، ولم يرضَ في وصف وجهه بالتقبيح والتشويه إلا بالتصريح الصريح دون الإشارة والتنبيه. وأما قولٌُ مُزَرِّد: فما رَقَد الوِلْدانُ حتى رأيتُهُ ... عَلَى البَكْرِ يَمْرِيهِ بِسَاقٍ وحَافِر
فقد قالوا إنه أراد أن يقول: بساقِ وقَدَمٍ، فلما لم تطاوعه القافية وضع الحافرَ موضع القدم، وهو وإن كان قد قال بعد هذا البيت ما يدلُّ على قَصْدِه أن يُحسنَ القولََ في الضيف، ويُباعده من أن يكون قَصَدَ الزراية عليه، أو يَحولَ حول الهزء به والاحتقار له، وذلك قوله: فقلتُ له أهْلاً وسَهلاً ومَرْحباً ... بهذا المُحيّا من مُحَيٍّ وزائرِ فليس بالبعيد أن يكون فيه شوبٌ مما مضى، وأن يكون الذي أفضى به إلى ذكر الحافر، قَصْدُه أن يصفه بسوء الحال في مسيره، وتقاذُفِ نواحي الأرض به، وأن يُبالغ في ذكره بشدّة الحرص على تحريك بَكْره، واستفراغ مجْهودهِ في سيره، ويُؤنِس بذلك أن تنظر إلى قوله قبل: وأشْعَثَ مُسْتَرخِي العَلاَبِي طوَّحَتْ ... به الأرضُ من بَادٍ عَريضٍ وحاضر فأَبْصَرَ نارِي وهي شقْراءُ أوقِدتْ ... بعَلْيَاءِ نَشْزٍ للعُيونِ النَّواظِرِ وبعده فما رَقد الوِلْدان، فإذا جعله أشْعَثَ مسترخِي العَلاَبيّ، فقد قَرُبَت المسافة بينه وبين أن يجعل قدمه حافِراً، ليعطيه، من الصلابة وشدة الوَقع على جَنْب البكر حظّاً وافراً، وهكذا قول الآخر: سأمنَعُها أو سوفَ أجعَلُ أمْرَها ... إلى مَلِكٍ أظْلافُهُ لم تَشَقَّق هو في حد التشبيه والاستعارة، لأن المعنى على أن الأظلاف لمن يُربَأ بالمَلِك عن مشابهته، كأنه قال: أجعلُ أمرها إلى ملكٍ، لا إلى عبدٍ جافٍ مُتَشقق الأظلاف، ويدلُّ على ذلك أن أبا بكر بن دريد قال في أول الباب الذي وضعه للاستعارة: يقولون للرجل إذا عابوه: جاءَنا حافياً مُتَشقِّق الأظلاف ثم أنشد البيت، فإذا كان من شَرْط هذه الاستعارة أن يُؤْتَى بها في موضع العَيب والنقص، فلا شك في أنها معنوية وكذا قوله: وذات هِدْم عارٍ نَوَاشِرُها ... تُصْمِتُ بالماءِ تَوْلَباً جَدِعا فأجرى التَولب على ولد المرأة، وهو لولد الحمار في الأصل، وذلك لأنه يصف حال ضُرّ وبؤس، ويذكر امرأةً بائسةً فقيرةً، والعادة في مثل ذلك الصفة بأوْصاف البهائم، ليكون أبلغ في سوء الحال وشدّة الاختلال، ومثله سواء قول الآخر: وذكرتُ أهليَ بالعَرا ... قِ وحَاجةَ الشُعْثِ التَّوَالبْ كأنه قال: الشُعث التي لو رأيتَها حسبتها تَوالب، لما بها من الغُبرة وبذاذة الهيئة، والجدِع في البيت بالدال غير معجمة، حكى شيخنا رحمه اللّه قال: أنشد المفضَّل تُصمِتُ بالماء تَولباً جَذَعاً بالذال المعجمة، فأنكره الأصمعي وقال: إنما هو تصمت بالماء تولباً جَدِعاً وهو السيّئ الغذاء، قال: فجعل المفضَّل يصيح، فقال الأصمعي: لو نفخت في الشَّبُّور ما نفعك، تَكلَّمْ بكلام الحُكْل وأصب. وأما قول الأعرابي: كيف الطَّلا وأُمُّه؟ فمن جنس المفيد أيضاً، لأنه أشار إلى شيء من تشبيه المولود بولد الظبي، ألا تراه قال ذاك بعد أن انصرف عن السُخط إلى الرضَى، وبعد أن سَكَن عنه فَورةُ الجوع الذي دعاه إلى أن قال: مَا أصنع به؟ آكُلُهُ أم أشرَبُه حتى قالت المرأة " غَرثانُ فارْبُكُوا له " ، وأمَّا قوله: إذْ أشْرَفَ الدِّيكُ يَدْعُو بعضَ أسْرَتِهِ ... عندَ الصَّباح، وهُمْ قومٌ مَعَازِيلُ فاستعارةُ القوم ها هنا، وإن كانت في الظاهر لا تفيد أكثر من معنى الجمع، فإنها مفيدة من حيث أراد أن يعطيها شَبَهاً مما يعقل، على أن هذا إذا حقّقنا في غير ما نحن فيه وبصدده في هذا الفصل، وذلك أنه لم يجتلب الاسمَ المخصوصَ بالآدميين حتى قدَّم تنزيلها منزلتَهم فقال " هم " ، فأتى بضمير مَنْ يعقل، وإذا كان الأمر كذلك، كان القوم جارياً مجرى الحقيقة، ونظيره أنك تقول: أين الأسودُ الضّارِية؟ وأنت تعني قوماً من الشجعان، فيلزم في الصفة حكم ما لا يعقل، فتقول: الضارية، ولا تقول الضارون ألبتة، لأنك وضعتَ كلامك على أنك كأنك تحدِّث عن الأسود في الحقيقة. وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يُجْرى بيت المتنبي: زُحَلٌ، عَلَى أنّ الكواكب قومُه ... لو كان منكَ لكان أكرمَ مَعْشَرا
وإن لم يكن معنا اسمٌ آخر سابقٌ حكمَ ما يعقل للكواكب، كالضمير في قوله وهم قوم، وذلك أنّ ما يُفْصِح به الحال من قَصْده أنْ يَدّعِي للكواكب هذه المنزلة يجري مجرى التصريح بذلك، ألا ترى أنه لا يتّضح وجه المدح فيه إلا بدَعْوَى أحوال الآدميين ومَعارفهم للكواكب، لأنه يفاضل بينه وبينها في الأوصاف العقلية بدلالة قوله " لكان أكرمَ مَعْشَراً " ، ولن يُتحَصَّل ثبوتُ وصفٍ شَرِيف معقولٍ لها ولا الكرمِ على الوجه الذي يُتعارَف في الناس حتى تُجعَل كأنها تعقل وتُميز، ولو كانت المفاضلةُ في النور والبهاء وعلوِّ المحلِّ وما شاكل ذلك، لكان لا يلزم حينئذ ما ذكرتُ، وحقُّ القول في هذا القبيل أعني ما يُدَّعَى فيه لما لا يعقل العقل فصلٌ يُفرَد به، ولعله يجيءُ في موضعه بمشيئة اللّه وتوفيقه. القول في الاستعارة المفيدة اعلم أنّ الاستعارة في الحقيقة هي هذا الضرب دون الأول، وهي أمَدُّ ميداناً، وأشدُّ افتناناً، وأكثر جرياناً، وأعجب حسناً وإحساناً، وأوسعُ سعَةً وأبعد غَوْراً، وأذهبُ نَجْداً في الصِّناعة وغَوْراً، من أن تُجمعَ شُعَبها وشُعُوبها، وتُحصَر فنونها وضروبها، نعم، وأسحَرُ سِحْراً، وأملأ بكل ما يملأ صَدْراً، ويُمتع عقلاً، ويُؤْنِس نفساً، ويوفر أُنْساً، وأهدَى إلى أن تُهدِي إليك أبداً عَذَارَى قد تُخُيِّرَ لها الجمال، وعُنِيَ بها الكمال وأن تُخرج لك من بَحْرها جواهرَ إن باهَتْها الجواهرُ مَدَّت في الشرف والفضيلة باعاً لا يقصرُ، وأبدت من الأوصاف الجليلة محاسنَ لا تُنكَر، وردَّت تلك بصُفرة الخجل، ووَكَلتها إلى نِسْبتها من الحَجَر وأن تُثير من مَعْدِنها تِبْراً لم ترَ مثلَه، ثم تصوغ فيها صياغاتٍ تُعطّل الحُلِيَّ، وتُريك الحَلْيَ الحقيقي وأن تأتيك على الجُملة بعقائل يأْنس إليها الدين والدنيا، وفضائل لها من الشرف الرُّتْبة العليا، وهي أجلُّ من أن تأتيَ الصفةُ على حقيقة حالها، وتستوفيَ جملةَ جمالها، ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تُبرز هذا البيان أبداً في صورة مُستجَدَّةٍ تزيد قَدرَه نُبْلاً، وتوجب له بعد الفضلِ فضلاً، وإنَّكَ لَتِجِدُ اللفظة الواحدة قد اكتسبتَ بها فوائد حتى تراها مكرّرة في مواضعَ، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأنٌ مفردٌ، وشرفٌ منفردٌ، وفضيلةٌ مرموقة، وخِلاَبةٌ موموقة، ومن خصائصها التي تُذكرَ بها، وهي عنوان مناقبها، أنَّها تُعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تُخرجَ من الصدَفة الواحدة عِدّةً من الدُّرَر، وتَجْنِيَ من الغُصْن الواحد أنواعاً من الثَّمر، وإذا تأمَّلتَ أقسام الصَّنعة التي بها يكون الكلام في حَدَّ البلاغة، ومعها يستحِق وصفَ البراعة، وجدتَها تفتقر إلى أن تُعيرها حُلاها، وتَقصُرُ عن أن تُنازعها مداها وصادفتها نجوماً هي بدرها، ورَوضاً هي زَهْرها، وعرائسَ ما لم تُعِرْها حَلْيها فهي عواطل، وكواعبَ ما لم تُحَسِّنها فليس لها في الحسن حظٌّ كامل، فإنك لترى بها الجمادَ حيّاً ناطقاً، والأعجمَ فصيحاً، والأجسامَ الخُرسَ مُبينةً، والمعاني الخفيّةَ باديةً جليّةً، وإذا نظرتَ في أمر المقاييس وجدتَها ولا ناصر لها أعزُّ منها، ولا رَوْنَق لها ما لم تَزِنْها، وتجدُ التشبيهات على الجملة غير مُعْجِبَةٍ ما لم تكُنْها، إن شئت أرتك المعانيَ اللطيفةَ التي هي من خبايا العقل، كأنها قد جُسِّمت حتى رأتها العيون، وإن شئتَ لطَّفتِ الأوصاف الجسمانية حتى تعود رُوحانية لا تنالها إلاّ الظنون، وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها، وإنما ينجلي الغرض منها ويَبين، إذا تُكُلِّم على هذه التفاصيل، وأُفرِدَ كُلُّ فن بالتمثيل، وسترى ذلك إن شاء اللّه، وإليه الرغبة في أن تُوفَّق للبلوغ إليه والتُوَفُّر عليه، وإذ قد عرَّفتكُ أن لها هذا المجال الفسيحَ، والشَّأوَ البعيد، فإني أضَعُ لك فصلاً، بعد فَصلٍ، وأجتهد بقدر الطاقة في الكَشف والبحث. فصل وهذا فصلٌ قسَّمْتُها فيه قسمة عامية ومعنى العامية، أنك لا تجد في هذه الاستعارة قسمةً إلا أخصَّ من هذه القسمة، وأنها قسيمةُ الاستعارة من حيث المعقول المتعارف في طبقات الناس وأصناف اللغات، وما تجدُ وتسمعُ أبداً نظيرَه من عوامِّ الناس كما تسمع من خواصهم
اعلم أن كل لفظة دخلتها الاستعارة المفيدة، فإنها لا تخلو من أن تكونَ اسماً أو فعلاً، فإذا كانت اسماً فإنه يقع مستعاراً على قسمين " أحدهما " أن تنقلَه عن مسمَّاه الأصلي إلى شيء آخر ثابتٍ معلومٍ فتُجريَه عليه، وتجعلَه متناولاً له تناوُلَ الصفةِ مثلاً للموصوف، وذلك قولك رأيت أسداً وأنت تعني رجلاً شجاعا و عَنَّت لنا ظَبية وأنت تعني امرأة و أبديتُ نوراً وأنت تعني هُدًى وبياناً وحُجّةً وما شاكل ذلك، فالاسم في هذا كله كما تراه متناولٌ شيئاً معلوماً يمكن أن يُنصَّ عليه فيقالَ: إنه عُنِيَ بالاسم وكُنِيَ به عنه ونُقل عن مسمَّاه الأصلي فجُعل اسماً له على سبيل الإعارة والمبالغة في التشبيه، والثاني: أن يؤخذ الاسم على حقيقته، ويُوضَع موضعاً لا يبينُ فيه شيء يشارُ إليه فيقالَ: هذا هو المراد بالاسم والذي استعير له، وجُعل خليفةً لاسمه الأصلي ونائباً مَنَابه، ومثالهُ قول لبيد: وغدَاةَ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقِرَّةٍ ... إذ أصبحَتْ بيَدِ الشَّمالِ زِمَامها وذلك أنه جعل للشمال يداً، ومعلوم أنه ليس هناك مُشار إليه يمكن أن تُجْرَى اليد عليه، كإجراء الأسد و السيف على الرجل في قولك انْبَرَى لي أسدٌ يَزْئِرُ و سللتُ سيفاً على العدوّ لا يُفَلُّ، و الظباء على النساء في قوله " الظباء الغِيدِ " و النور على الهُدَى والبيان في قولك أبديتُ نوراً ساطعاً وكإجراء اليد نفسها على من يعزُّ مكانه كقولك أتنازعني في يدٍ بها أبطِشُ، وعين بها أبصرُ تريد إنساناً له حُكْم اليد وفعلها، وغناؤها ودَفْعُها، وخاصّةُ العين وفائدتُها، وعزّة موقعها، ولطف موضعها لأنّ معك في هذا كله ذاتاً يُنَصُّ عليها، تَرَى مكانَها في النفس، إذَا لم تجد ذكرها في اللفظ، وليس لك شيءٌ من ذلك في بيت لبيد، بل ليس أكثر من أن تُخَيّل إلى نفسك أن الشَّمال في تصريف الغَداة على حكم طبيعتها، كالمدبّر المصرِّفِ لما زمامُه بيده، ومَقادتُهُ في كفّه، وذلك كلُّه لا يتعدَّى التخيُّلُ والوَهْم والتقدير في النفس، من غير أن يكون هناك شيء يُحَسُّ، وذاتٌ تتحصَّل، ولا سبيل لك أن تقول: كَنَى باليد عن كذا، وأراد باليد هذا الشيء، أو جَعَل الشيءَ الفُلاَنيَّ يداً كما تقول: كَنَى بالأسد عن زيد، وعَنَى به زَيداً، وجعل زيداً أسداً، وإنما غايتُك التي لا مُطَّلعَ وراءها أن تقول: أراد أن يُثبت للشمال في الغداة تصرُّفاً كتصرُّف الإنسان في الشيء يقلّبهُ، فاستعار لها اليد حتى يبالغ في تحقيق الشبَهِ، وحُكْمُ الزمام في استعاراته للغداة حكم اليد في استعارتها للشمال، إذ ليس هناك مشارٌ إليه يكون الزمامُ كنايةً عنه، ولكنه وفَّى المبالغةَ شَرْطها من الطرفين، فجعل على الغداة زماماً، ليكون أتمَّ في إثباتها مصرَّفةً، كاجعل للشمال يداً، ليكون أبلغ في تصييرها مُصَرِّفة، ويفصل بين القسمين أنك إذا رجعت في القسم الأول إلى التشبيه الذي هو المغزَى من كل استعارة تُفيد، وجدتَه يأتيك عفواً، كقولك في رأيت أسداً رأيت رجلاً كالأسد أو رأيت مثل الأسد أو شبيهاً بالأسد وإن رُمْتَهُ في القسم الثاني وجدته لا يؤاتيك تلك المؤاتاة، إذ لا وجه لأن تقول: إذا أصبح شيء مثل اليد للشمال أو حصل شبيه باليد للشَّمال، وإنما يتراءى لك التشبيه بعد أن تَخْرِق إليه ستراً، وتُعمل تأمّلاً وفكرْاً، وبعد أن تُغيِّر الطريقةَ، وتخرج على الحذْوِ الأول، كقولك: إذ أصبحت الشَّمال ولها في قوة تأثيرها في الغداة شَبَهُ المالكِ تصريف الشيء بيده، وإجراءَه على موافقته، وجَذْبَه نحو الجهة التي تقتضيها طبيعته، وتنحوها إرادته، فأنت كما ترى تجدُ الشَّبه المنتَزع ها هنا إذا رجعتَ إلى الحقيقة، ووضعت الاسم المستعارَ في موضعه الأصلي لا يلقاكَ من المستعار نَفْسه، بل مما يضاف إليه، ألا ترى أنك لم تُرِدْ أن تجعلَ الشَّمال كاليد ومشبهةً باليد، كما جعلت الرجلَ كالأسد ومشبَّهاً بالأسد، ولكنك أردت أن تجعل الشمال كذي اليد من الأحياء، فأنت تجعل في هذا الضرب المستعارَ له وهو نحو الشمال ذا شيءٍ، وغرضُك أن تُثبت له حكم من يكون له ذلك الشيء في فعل أو غيره، لا نفسَ ذلك الشيء فاعرفه. وهكذا قول زهير: " وَعُرّيَ أفْراسُ الصّبا ورَوَاحِلُه "
لا تستطيع أن تُثبت ذواتاً أو شِبهَ الذوات تتناولُها الأفراسُ والرَّواحل في البيت، على حدّ تناوُل الأسدِ الرجلَ الموصوفَ بالشجاعة، والبدرِ الموصوفَ بالحسن أو البهاء، والسحاب المذكورَ بالسخاء والسماحة، والنورِ العلمَ، والهُدَى والبيان، وليس إلاّ أنك أردت أن الصِّبا قد تُرك وأهمل، وفُقِد نِزاعُ النفس إليه وبَطَل، فصار كالأمر يُنْصَرفُ عنه فتُعطَّل آلاته، وتُطرح أداته كالجهة من جهات المسير نحو الحج أو الغزو أو التجارة يُقضى منها الوطَرُ، فتُحَطُّ عن الخيل التي كانت تُركب إليها لبُودُها، وتُلقَى عن الإبل التي كانت تُحمَّل لها قتودُها، وقد يجيء وإن كان كالتكلّف أن تقول إن الأفراس عبارة عن دواعي النفوس وشهواتها، وقواها في لذَّاتها، أو الأسبَابِ التي تَفْتِل في حَبْل الصِبا، وتنصر جانبَ الهوى، وتُلهِب أريحيّة النشاط، وتُحرّك مَرَح الشَّباب، كما قال " ونعم مَطيّةُ الجهلِ الشبابُ " وقال " كان الشبابُ مَطِيّةَ الجَهْل " وليس من حقّك أن تتكلّف هذا في كل موضع، فإنه ربّما خرجَ بك إلى ما يضُرُّ المعنى وينْبو عنه طَبْعُ الشعر، وقد يتعاطاه من يخالطه شيء من طباع التعمُّق، فتجدُ ما يُفسد أكثر مما يُصلح، ولو أنك تطلبت للمطية في بيت الفرزدق: لَعَمْرِي لئن قَيّدْتُ نفسي لطالما ... سَعَيْتُ وأوضعتُ المَطّيةَ في الجهلِ
مِثْلَ هذا التأوّل، تباعدتَ عن الصواب، وعدلت عما يسبق إلى القلب، وذلك أن المعنى على قولك: لطالما سعيتُ في الباطل، وقديماً كنت في الإسراع إلى الجهل بصُورة من يُوضع المطيّة في سفره، وسِرُّ هذا الموضع يتجلَّى تمامَ التجلِّي إذا تُكُلِّم على الفَرْق بين التشبيه والتمثيل، وسيأتيك ذلك إن شاء اللّه تعالى، وكذا قولهم: هو مُرْخَى العِنان، ومُلْقَى الزِّمام، لا وجهَ لأن تروم شيئاً تُجري العِنان عليه ويتناوله، بل المعنى على انتزاع الشبه من الفرس في حال ما يُرْخَى عِنانُه، وأن يُنظَر إلى الصورة التي تُوجَد من حاله تلك في العقل، ثم يُجاء بها فيُعَارُها الرجُل، ويُتصوَّر بمقتضاها في النفس ويُتمثّل، ولو قلت: إن العنان ها هنا بمعنى النهي، وأن المراد أن النهي قد أُبعد عنه ونحو ذلك، دخلت في ظاهرٍ من التكلُّف، وأتعبت نفسك في غير جدوَى، وعادت زيادتك نقصاناً، وطَلبُك الإحسانَ إساءة. واعلم أن إغفال هذا الأصل الذي عرّفتك من أن الاستعارة تكون على هذا الوجه الثاني كما تكون على الأوّل مما يعدو إلى مثل هذا التعمّق، فإنه نفسَهُ قد يصير سبباً إلى أن يقع قوم في التشبيه، وذلك أنهم إذا وضعوا في أنفسهم أن كل اسم يستعار فلا بد من أن يكون هناك شيء يمكن الإشارة إليه يتناوله في حال المجاز، كا يتناول مسمّاه في حال الحقيقة، ثم نظروا في نحو قوله تعالى: " وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي " " طه:93 " و " وأصْنَع الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا " " هود:73 " ، فلما لم يجدوا للفظة العين ما يتناوله على حدًّ تناول النُّور مثلاً للهدى والبيان ارتبكوا في الشكّ وحاموا حول الظاهر، وحملوا أنفسهم على لزومه، حتى يُفضي بهم إلى الضلال البعيد، وارتكاب ما يقدح في التوحيد، ونعوذ باللّه من الخذلان. وطريقة أخرى، في بيان الفرق بين القسمين، وهو أن الشبَهَ في القسم الأول الذي هو نحو رأيت أسداً - تريد رجلاً شجاعاً - وَصفٌ موجودٌ في الشيء الذي استعرت اسمه وهو الأسد، وأما قولك إذا أصبحت بيد الشمال زمامها فالشبه الذي له استعرتَ اليد، ليس بوصفٍ في اليد، ولكنه صفته تُكسبها اليدُ صاحبَها، وتَحصُلُ له بها، وهي التصرف على وجه مخصوص وكذا قولك أفراس الصِّبا، ليس الشبه الذي له استعرت الأفراس موجوداً في الأفراس، بل هو شبه يحصل لما يضاف إليه الأفراس، حيث يراد الحقيقة نحو قولنا " عُرّي أفراس الغزو، و أجِمَّت خيل الجهاد " ، وذلك ما يوجبه الفعل الواقع على الأفراس، نحو أنّ وقوع الفعل الذي هو عُرّيَ على أفراس الغزو، يوجب الإمساك عن الغزو والترك له وعلى هذا القياس. وإذ قد تقرر أمر الاسم في كون استعارته على هذين القسمين، فمن حقّنا أن ننظر في الفعل هل يحتمل هذا الانقسام، والذي يجب العملُ عليه أن الفعل لا يُتصوَّر فيه أن يتناول ذات شيء، كما يتصور في الاسم، ولكن شأن الفعل أن يُثبت المعنى الذي اشتُقَّ منه للشيء في الزمان الذي تدل صيغته عليه، فإذا قلت: ضرَبَ زيدٌ، أثبتَّ الضرب لزيد في زمان ماضٍ، وإذا كان كذلك، فإذا استعير الفعل لما ليس له في الأصل، فإنه يُثبتُ باستعارته له وصفاً هو شبيه بالمعنى الذي ذلك الفعل مشتق منه. بيان ذلك أن تقول: نطقَت الحال بكذا، و أخبرتني أساريرُ وجهه بما في ضميره، وكلّمتني عيناه بما يحوي قلبه، فتجد الحال وصفاً هو شبيه بالنطق من الإنسان، وذلك أن الحال تدلّ على الأمر ويكون فيها أَمَاراتٌ يعرف بها الشيء، كما أن النطق كذلك، وكذلك العين فيها وصف شبيه بالكلام، وهو دلالتها بالعلامات التي تظهرُ فيها وفي نظرها وخواصّ أوصافٍ يُحْدَس بها على ما في القلوب من الإنكار والقبول، ألا ترى إلى حديث الجمحي؟ حُكِي عن بعضهم أنه قال: أتيتُ الجمحي أستشيره في امرأة أردت التزوج بها فقال: أقصيرة هي أم غير قصيرة؟ قال: فلم أفهم ذلك، فقال لي: كأنك لم تفهم ما قلتُ، إنّي لأعرف في عين الرَّجل إذا عرف، وأعرفُ فيها إذا أنكر، وأعرفُ إذا لم يعرف ولم ينكر، أمَّا إذا عرف، فإنها تخَاوَصُ، وإذا لم يعرف ولم ينكر فإنها تَسْجُو، وإذا أنكر فإنها تجحظُ، أردت بقولي قصيرة، أي هي قصيرة النسب تُعَرف بأبيها أو جَدّها. قال الشيخ أبو الحسن: وهذا من قول النسّابة البكري لرؤبة بن العجاج لما أتاه فقال له من أنت؟ قال رؤبة بن العجاج فقال قَصُرتَ وعُرِفتَ. قال: وعلى هذا المعنى قول
رؤبة:ؤبة: قد رَفَعَ العجَّاج ذكري فادعُنِي ... باسْمٍ إذا الأنساب طالت يَكْفِنِي وأمر العين أظهر من أن تحتاج فيه إلى دليل، ولكن إذا جرى الشيء في الكلام هو دعوى في الجملة، كان الآنس للقارئ أن يقترن به ما هو شاهد فيه، فلم يُرَ شيءٌ أحسنَ من إيصال دعوى ببرهان. وإذا كان أمرُ الفعل في الاستعارة على هذه الجملة، رجَع بنا التحقيق إلى أنّ وصف الفعل بأنه مستعارٌ، حكمٌ يرجع إلى مَصْدره الذي اشتُقّ منه، فإذا قلنا في قولهم: نطقت الحال، أن نَطَقَ مستعار، فالحكم بمعنى أن النُّطق مستعار، وإذا كانت الاستعارة تنصرف إلى المصدر كان الكلام فيه على ما مضى، ومما تجب مراعاته أن الفعل يكون استعارة مرّةً من جهة فاعله الذي رُفع به، ومثاله ما مضى ويكون أُخرى استعارةً من جهة مفعوله، وذلك نحو قول ابن المعتزّ: جُمعَ الحقُّ لنا في إمامٍ ... قَتَلَ البُخْلَ وأحيى السَّمَاحَا فَقَتَلَ و أحيى إنّما صارَا مستعارينَ بأن عُدّيا إلى البخل والسماح، ولو قال: قتل الأعداء وأحيى، لم يكن قَتَلَ استعارةً بوجه، ولم يكن أحيى استعارة على هذا الوجه وكذا قوله: وأَقْرِي الهمومَ الطارقاتِ حَزامةً هو استعارة من جهة المفعولين جميعاً، فأما من جهة الفاعل فهو محتمل للحقيقة، وذلك أن تقول: أقري الأضياف النازلين اللحمَ العبيطَ ومثله قوله: " قَرَى الهمَّ إذْ ضافَ الزَّماعَ " وقد يكون الذي يعطيه حكمَ الاستعارة أحدُ المفعولين دون الآخر كقوله: نقريهمُ لَهْذَمِيَّاتٍ نَقُدُّ بها ... مَا كَانَ خَاطَ عليهم كُلُّ زَرَّادِ فصل اعلم أن الاستعارة كما علمت تعتمد التشبيهَ أبداً، وقد قلت: إنّ طُرُقه تختلف، ووعدتُك الكلام فيه، وهذا الفصل يعطي بعضَ القول في ذلك بإذن اللّه تعالى، وأنا أريد أن أُدرِّجها من الضَّعف إلى القوة، وأبدأ في تنزيلها بالأدنى، ثم بما يزيد في الارتفاع، لأن التقسيم إذا أُريغَ في خارج من الأصل، فالواجب أن يُبدَأ بما كان أقلَّ خروجاً منه، وأدنى مدًى في مفارقته، وإذا كان الأمر كذلك، فالذي يستحِقُّ بحكم هذه الجملة أن يكون أوّلاً من ضروب الاستعارة، أن يُرَى معنى الكلمة المستعارة موجوداً في المستعار له من حيث عموم جنسه على الحقيقة، إلا أنّ لذلك الجنس خصائص ومراتبَ في الفضيلة والنقص والقوّة والضعف، فأنت تستعير لفظ الأفضل لما هو دونه، ومثاله استعارةُ الطيران لغير ذي الجناح، إذا أردت السرعة، و انقضاض الكواكب للفرس إذا أسرع في حركته من علوّ، و السباحة له إذا عدَا عدواً كان حاله فيه شبيهاً بحالة السابح في الماء، ومعلومٌ أن الطيران والانقضاضَ والسباحةَ والعدوَ كلها جنس واحد من حيث الحركة على الإطلاق، إلا أنهم نظروا إلى خصائص الأجسام في حركتها، فأفردوا حركةَ كل نوع منها باسم، ثم إنهم إذا وجدوا في الشيء في بعض الأحوال شبهاً من حركةِ غير جنسه، استعاروا له العبارة من ذلك الجنس، فقالوا في غير ذي الجناح طار كقوله: وطِرْتُ بِمُنْصُلي في يَعْمَلاتٍ وكما جاء في الخبر: كُلّما سمع هَيْعَةً طار إليها، وكما قال: لَوْ يَشَا طَارَ بهِ ذُو مَيْعةٍ ... لاَحِقُ الآطال نَهْدٌ ذو خُصَلْ ومن ذلك أن فاض موضوع لحركة الماء على وجه مخصوص، وذلك أن يفارق مكانهُ دَفْعَةً فينبسط، ثم إنه استعير للفجر، كقوله: كالفَجْرِ فَاضَ على نُجُوم الغَيْهبِ لأن للفجر انبساطاً وحالةً شبيهة بانبساط الماء وحركته في فَيْضِهِ، فأما استعارة فاض بمعنى الجُود، فنوع آخر غير ما هو المقصود ها هنا، لأن ألقصد الآن إلى المستعار الذي تُوجد حقيقة معناه من حيث الجنس في المستعار له، وكذلك قول أبي تمام: وقَدَ نَثَرَتْهُمْ رَوْعَةٌ ثُمّ أَحْدَقُواْبِهِ مِثْلَمَا أَلَّفَتْ عِقْدَاً مُنْظَّمَا وقول المتنبي: نَثَرَتْهُمْ فَوقَ الأُحْيَدِبِ نَثْرَةً ... كما نُثِرَتْ فوق العَرُوسِ الدَّراهِمُ
استعارة، لأن النثر في الأصل للأجسام الصغار، كالدراهم والدنانير والجواهر والحبوب ونحوها، لأن لها هيئةً مخصوصةً في التفرق لا تَأْتِي في الأجسام الكبار، ولأن القصد بالنثر أن تُجمَعُ أشياء في كفّ أو وِعاء، ثم يقع فعلٌ تتفرّق معه دَفْعَةً واحدةً، والأجسام الكبار لا يكون فيها ذلك، لكنه لمّا اتَّفق في الحرب تساقُطُ المنهزمين على غيرترتيب ونظام، كما يكون في الشيء المنثور، عبَّر عنه بالنثر، ونسب ذلك الفعل إلى الممدوح، إذْ كان هو سبب ذلك الانتثار، فالتفرُّق الذي هو حقيقة النثر من حيث جنس المعنى وعمومِه، موجودُ في المستعار له بلا شبهة، ويبيّنه أن النَّظم في الأصل لجمع الجواهر وما كان مثلها في السلوك، ثم لمّا حصل في الشَّخْصَين من الرجال أن يجمعهما الحاذِق المبدعُ في الطعن في رُمْحٍ واحد ذلك الضربَ من الجمع، عبَّر عنه بالنَّظم، كقولهم: انتظمها برمحه، وكقوله: قالوا وينظمُ فَارِسَيْن بطَعْنَةٍ وكان ذلك استعارةً، لأن اللفظة وقعت في الأصل لما يُجْمع في السُّلوك من الحبوب والأجسام الصغار، إذ كانت تلك الهيئة في الجمع تَخُصُّها في الغالب، وكان حصولها في أشخاص الرجال من النادر الذي لا يكاد يقع، وإلا فلو فرضنا أن يكثرَ وجودُه في الأشخاص الكبيرة، لكان لفظ النظم أصلاً وحقيقة فيها، كما يكون حقيقةً في نحو الحبوب، وهذا النحو لشدة الشَّبه فيه، يكاد يلحقُ بالحَقيقة، ومن هذا الحدِّ قوله: وفي يَدِكَ السَّيْف الَّذِي امتنعَتْ به ... صَفَاةُ الهُدَى من أَنْ تَرِقَّ فتُخْرَقَا وذلك أن أصل الخَرْق أن يكون في الثوب، وهو في الصفاة استعارة، لأنه لمّا قال تَرِقَّ، قربت حالها من حالِ الثوب، وعلى ذلك فإنَّا نعلم أن الشق والصدع حقيقة في الصَّفاة، ونعلم أن الخرق يجامعهما في الجنس، لأن الكلَّ تفريقٌ وقطعٌ، ولو لم يكن الخرق والشق واحداً، لما قلت: شققتُ الثوبَ، والشَّق عيبٌ في الثوب، و تَشَقََّقَ الثوبُ قول من لا يستعير، ولكن لو قلتَ " خرق الحِشمة " ، لم يكن من الحقيقة في شيء، وكان خارجاً من هذا الفن الذي نحن فيه، لأنه ليس هناك شق، ولو جاءَ شَقَّ الحِشمة أو صَدَعَ مثلاً، كان كذلك أعني لا يكون له أصلٌ في الحقيقة ولا شَبهٌ بها. ومن هذا الضرب قوله تعالى: " وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ " " سبأ:91 " يُعَدُّ استعارةٌ من حيث إن التمزيق للثوب في أصل اللغة، إلا أنه على ذاك راجع إلى الحقيقة، من حيث إنه تفريق على كل حال، وليس بجنس غيره، إلاّ أنهم خصّوا ما كان مثل الثوب بالتمزيق، كما خصُّوه بالخرق، وإلا فأنت تعلم أن تمزيق الثوب تفريقُ بعضه من بعض، ومثله أن القطع إذا أطلق، فهو لإزالة الاتصال من الأجسام التي تلتزق أجزاؤها، وإذا جاء في تفريق الجماعة وإبعاد بعضه عن بعض، كقوله تعالى: " وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً " " الأعراف:861 " ، كان شِبْهَ الاستعارة، وإن كان المعنى في الموضعين على إزالة الاجتماع ونَفْيهِ. فإن قلت: قطع عليه كلامَهُ، أو قلت: نَقْطَع الوقت بكذا، كان نوعاً آخر، ومن الاستعارة القريبة في الحقيقة قولهم: أَثْرَى فلانٌ من المجد، وَ أفلس من المروءة، وكقوله: إنْ كانَ أغْنَاها السلُوُّ، فإنَّني ... أَمْسَيْتُ من كَبِدِي ومِنْهَا مُعْدِمَا وذلك أن حقيقة الإثراء من الشيء، كثرته عندك، ووصفُ الرجل بأنه كثير المجْد أو قليل المروءَة، كوصفه بأنه كثير العلم أو قليل المعرفة، في كونه حقيقة، وكذلك إذا قلت: أَثْرَى من الشوق أو الحُزْن كما قال: قَدْ وَقَفْنَا على الدِّيارِ وفي الرَّكْ ... بِ خَرِيبٌ من الغَرامِ ومُثْرِي
فهو كقولك: كَثُر شَوقُه وحزنُه وغرامُه، وإذا كان كذلك، فهو في أنه نُقل إلى شيء جِنْسُه جِنْسُ الذي هو حقيقةٌ فيه، بمنزلة طار، أو أظهرُ أمراً منه، وكذا معنى أعدَم من المال، أنه خلا منه، وأن المال يزول عنه فإذا أخبر أن كَبِدَه قد ذهبت عنه، فهو في حقيقةِ مَنْ ذهب ماله وعدِمَه، والعُدْم في المال وفي غير المال بمنزلة واحدة لا تتغيَّر له فائدة، و المُعْدَم موضوع لمن عَدِم ما يحتاج إليه، فالكبد مما يحتاج إليه، وكذلك المحبوبة، فإنما تقع هذه العبارة في نفسك موقع الغريب من حيث أن العُرف جَرَى في الإعدام بأن يُطلَق على من عَدِم ما جنسُهُ جنسُ المال، ويؤنّسك بما قلتُ، أنك لو قلت: عدم كبدَه، لم يكن مجازاً، ولم تجد بينه وبين خلا من كبده وزالت عنه كبده كبيرَ فَرْقٍ، ألا تراك تقول: الفَرَسُ عَادِمٌ للطِّحَال تريد: ليس له طحال، وهذا كلام لا استعارة فيه، كما أنك لو قلت: الطحال معدوم في الفرس كان كذلك، ومن اللائق بهذا الباب البَيِّن أمرُه، ما أنشده أبو العباس في الكامل من قول الشاعر: لم تَلقَ قَوْمَاً همُُ شَرٌّ لإخْوَتِهِمْ ... مِنَّا عَشِيَّةَ يَجْرِي بالدَّمِ الوادي تَقْريِهِمُ لَهْذَمِيَّاتٍ نَقُدُّ بها ... ما كَانَ خاط عَلَيْهِم كُلُّ زَرَّادِ قال: لأن الخياطة، تضمُُّ خِرَقَ القميص والسَّرْدُ يضُمُّ حَلَقَ الدِرْع، أفلا تراهُ بَيَّنَ أن جنسهما واحدٌ، وأن كلاًّ منهما ضَمٌّ ووَصْلٌ وإنما يَقَعُ الفرقُ من حيث أن الخياطة ضَمُّ أطراف الخِرقَ بِخَيْطِ يُسْلَك فيها على الوجه المعلوم، و الزَّرْدُ ضّم حَلَق الدرع بمداخلةٍ توجد بينها، إلاّ أن الشِّكال الذي يُلزِم أحدَ طرفَي الحَلْقةِ الآخرَ بدخوله في ثُقبتيهما، في صورة الخيط الذي يذهب في منافذ الإبرة، واستقصاءُ القول في هذا الضرب، والبحث عن أسراره، لا يمكن إلا بعد أن تُقَرَّر الضروب المخالفةُ له من الاستعارة، فأقْتصر منه على القدرالمذكور، وأعود إلى القسمة، ضربٌ ثانٍ يُشبه هذا الضرب الذي مضى، وإن لم يكن إياه، وذلك أن يكون الشبهُ مأخوذاً من صِفةٍ هي موجودٌ في كل واحدٍ من المستعَار له والمُستعارِ منه على الحقيقة، وذلك قولُك: رأيت شمساً، تريد إنساناً يتهلَّل وجهه كالشمس، فهذا له شَبَهٌ باستعارة طارلغيرذي الجناح وذلك أن الشبه مُراعَى في التلألؤ، وهو كما تعلم موجودٌ في نفس الإنسان المتهلل، لأنّ رَوْنقَ الوجه الحسن من حيث حسنُ البصر، مجانسٌ لضوء الأجسام النيّرة، وكذلك إذا قلت: رأيت أسداً تريد رجلاً، فالوصف الجامعُ بينهما هو الشجاعة، وهي على حقيقتها موجودة في الإنسان، وإنما يقع الفرقُ بينه وبين السَّبع الذي استعرتَ اسمه له فيها، من جهةً القُوَّة والضعفِ والزيادة والنقصان، وربما ادُّعي لبعض الكُماةِ والبُهَم مساواةُ الأسد في حقيقة الشجاعة التي عمود صورتها انتفاءُ المخافة عن القلب حتى لا تخامرَه، وتُفرِّقَ خواطرَه وتُحَلِّلَ عزيمته في الإقدام على الذي يباطشه ويريد قَهْرَه، وربما كفّ الشُّجاع عن الإقدام على العدوّ لا لخوف يملك قلبه ويَسْلُبه قواه، ولكن كما يكُفُّ المنهيُّ عن الفعل، لا تخونه في تعاطيه قوّةٌ، وذلك أن العاقل من حيث الشرع منهيٌّ عن أن يُهلك نفسه، أتَرَى أنّ البطلَ الكميَّ إذا عَدِمَ سلاحاً يقاتل به، فلم ينهَض إلى العدوّ، كان فاقداً شجاعته وبأسَه، ومتبرّئاً من النَّجْدةِ التي يُعْرَفُ بها، ثم إن الفرق بين هذا الضرب وبين الأول أن الاشتراك ها هنا في صفة توجد في جنسين مختلفين، مثلُ أنّ جنس الإنسان غير جنس الشمس، وكذلك جنسهُ غيرُ جنس الأسد، وليس كذلك الطيران و جريُ الفرس، فإنهما جنس واحد بلا شبهة، وكلاهما مُرورٌ وقطعٌ للمسافة، وإنما يقع الاختلاف بالسرعة، وحقيقة السرعة قلّة تخلُّلِ السكون للحركات، وذلك لا يوجب اختلافاً في الجنس
فإن قلت: فإذَنْ لا فرق بين استعارة طَار للفرس وبين استعارة الشَفَة للفرس، فهّلا عددتَ هذا في القسم اللَّفْظِيّ غير المفيد؟ ثم إنك إن اعتذرت بأنّ في طار خصوصَ وصفٍ ليس في عَدَا و جَرَى، فكذلك في الشفة خصوصُ وصفٍ ليس في الجحفلة، فالجواب إنِّي لم أعُدَّه في ذلك القسم، لأجل أنّ خصوص الوصف الكائن في طَارَ مُرَاعًى في استعارته للفرس، ألا ترَاك لا تقوله في كل حال، بل في حالٍ مخصوصة وكذا السباحة، لأنك لا تستعيرها للفرس في كل أحوال حَرْبه، نعم، وتأبى أن تعطيَها كُلّ فرس، فالقَطُوف البليدُ لا يوصف بأنه سابح
وأما استعارة اسمٍ لعضو نحو الشفة والأنف فلم يُراعَ فيه خصوص الوصف، ألا ترى أن العجّاج لم يرد بقوله " ومَرْسِنَاً مُسرَّجَاً " ، أن يشبّه أنف المرأة بأنف نوع من الحيوان، لأن هذا العضو من غير الإنسان لا يوصف بالحسن، كما يكون ذلك في العين والجيد، وهكذا استعارة الفِرْسِن للشاة في قول عائشة رضي اللّه عنها: ولَوْ فِرْسِنَ شاةٍ، وهو للبعير في الأصل ليس لأن يشبَّه هذا العضو من الشاة به من البعير، كيف ولا شَبَه هناك، وليس إذَنْ في مجيءُ الفِرْسِن بَدَل الظِلْف أمرٌ أكثر من العضو نفسه، ضرب ثالثٌ، وهو الصَّميم الخالص من الاستعارة، وحدُّه أن يكون الشبَهُ مأخوذاً من الصُّور العقلية، وذلك كاستعارة النُّور للبيان والحجة الكاشفة عن الحق، المزِيلة للشكّ النافية للرَّيْب، كما جاء في التَّنزيل من نحو قوله عزّ وجلّ: " واتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ " " الأعراف:751 " وكاستعارة الصراط للدِّين في قوله تعالى: " اهْدِنَا الصِرَاطَ المُسْتَقِيمَ " " الفاتحة:5 " ، و " وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " " الشورى:25 " فإنك لا تشُكُّ في أنه ليس بين النور والحجة ما بين طيران الطائرو جرى الفرس من الاشتراك في عموم الجنس، لأن النور صفة من صفات الأجسام محسوسةٌ، والحجة كلامٌ وكذا ليس بينهما ما بين الرجل والأسد من الاشتراك في طبيعةٍ معلومةٍ تكون في الحيوان كالشجاعة، فليس الشبه الحاصل من النور في البيان والحجة ونحوهما، إلاّ أنّ القلب إذا وردت عليه الحجَّة صار في حالة شبيهة بحال البصر إذا صادف النور، ووُجِّهت طلائعُه نحوه، وجال في مَصَارفه وانتشر، وانبَتَّ في المسافة التي يسافر طَرْفُ الإنسان فيها، وهذا كما تعلم شَبهٌ لستَ تحصل منه على جنس ولا على طبيعة وغريزة، ولا على هيئة وصورة تدخل في الخِلقة، وإنما هو صورة عقلية. واعلم أن هذا الضرب هو المنزلةُ التي تبلغ عِندها الاستعارة غاية شرفها، ويتسع لها كيف شاءت المجال في تفنُّنها وتصرُّفها، وها هنا تَخْلُص لطيفةً روحانية، فلا يبصرها إلا ذوو الأذهان الصافية، والعقول النافذة، والطباع السليمة، والنفوس المستعدَّة لأن تَعِيَ الحكمةَ، وتعرف فَصْل الخطاب، ولَهَا ها هنا أساليبُ كثيرة، ومسالك دقيقة مختلفةٌ، والقول الذي يجري مَجْرَى القانون والقسمةِ يغمضُ فيها، إلا أنّ ما يجب أن تعلم في معنى التقسيم لها أنها على أصول أحدها: أن يؤخذ الشَّبه من الأشياء المشاهدة والمدركة بالحواسّ على الجملة للمعاني المعقولة، والثاني: أن يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها، إلا أن الشّبه مع ذلك عقليٌّ، والأصل الثالث: أن يؤخذ الشَّبه من المعقول للمعقول، فمثال ما جرى على " الأصل الأول " ما ذكرتُ لك من استعارة النور للبيان والحجّة، فهذا شَبَهٌ أُخِذ من محسوس لمعقول، ألا ترى أن النور مشاهَدٌ محسوس بالبصر، والبيانُ والحجّةُ مما يؤدّيه إليك العقل من غير واسطة من العين أو غيرها من الحواس، وذلك أن الشَّبه ينصرف إلى المفهوم من الحروف والأصوات، ومدلولُ الألفاظ هو الذي ينوِّر القلب لا الألفاظ، هذا و النور يستعار للعلم نفسه أيضاً والإيمان، وكذلك حكم الظلمة، إذا استعيرت للشُّبهة والجهل والكفر، لأنه لا شُبْهةَ في أن الشَّبهَ والشكوك من المعقول، ووجه التشبيه أن القلب يحصُل بالشبهة والجهلِ، في صفة البصر إذا قَيّده دُجَى الليل فلم يجدْ منصرَفاً وإن استعيرت للضلالة والكفر، فلأنّ صاحبهما كمن يسعى في الظلمة فيذهَب في غير الطريق، وربما دُفِع إلى هُلْك وتردَّى في أُهْوِيَّة، ومن ذلك استعارة القِسْطاس للعدل ونحو ذلك من المعاني المعقولة التي تُعْطَى غيرَها صِفةَ الاستقامة والسَّداد، كما استعاره الجاحظ في فصلٍ يذكر فيه علم الكلام، فقال: هو العِيار على كل صِنَاعة، والزِّمام على كل عبارة، والقِسْطاسُ الذي به يُسْتَبان كل شيء ورُجْحَانه والراووق الذي به ىُعْرْف صفاء كل شيء وكَدَره، وهكذا إذا قيل في النَّحو: إنه ميزان الكلام ومِعْياره، فهو أخذُ شبهٍ من شيء هو جسمٌ يُحَسُّ ويشاهَد، لمعنًى يُعْلَم ويُعْقَل ولا يدخل في الحاسّة، وذلك أظهر وأبين من أن يُحتاج فيه إلى فضل بيان، وأما تفنُّنه وسَعته وتصرُّفه من مَرْضِيٍّ ومسخوطٍ، ومقبول ومرذُول، فحقُّ الكلام فيه بعدَ أن يقع الفراغُ من
تقرير الأصول، ومثال " الأصل الثاني " ، وهو أخذ الشَّبه من المحسوس للمحسوس، ثم الشبهُ عَقليٌّ، قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخَضْراء الدِمَن " ، الشبه مأخوذ لل
كتاب أسرار البلاغة المؤلف :عبد القاهر الجرجانى الفصل الثانى الاستعارة