فهم القرآن والمثل بين التجريد والتجسيد بقلم: د.نافذ الشاعر
كاتب الموضوع
رسالة
أشرف على
مؤسس الدعم التطويرى
عدد المساهمات : 2842 تاريخ التسجيل : 23/10/2012
موضوع: فهم القرآن والمثل بين التجريد والتجسيد بقلم: د.نافذ الشاعر السبت نوفمبر 03, 2012 9:18 pm
فهم القرآن والمثل بين التجريد والتجسيد بقلم: د.نافذ الشاعر
قد قسمت بحثي إلى جزأين: جزء نظري، وجزء تطبيقي، واكتفيت في الجزء التطبيقي بإيراد مثلين فقط خوف الإطالة، وسأبدأ بالحديث بإذن الله عن المقدمات النظرية:
أولا: مقدمات نظرية: المثل هو (إيجاز في اللفظ، وإصابة في المعنى، وحسن في التشبيه، يصيب المعنى الصحيح، ويكون هدفه الموعظة والنصيحة، ويعبر عن تجربة من تجارب الحياة. فيكون معنى المثل المثال الذي يُحذى عليه، كأنه جُعل مقياساً لغيره) [1]
وعلى هذا فإننا نجد لدى بعض الأشخاص قدرة غريزية على قول الأمثال التي يستهدي بها الآخرون، سواء الأمثال الفصحى أو الأمثال العامية، فالأمثال الفصحى مثل: (إن الكذوب قد يصدق)، (إياك أن يضرب لسانك عنقك)، (آخر الداء الكي)(قطعت جهيزة قول كل خطيب)(بلغ السيل الزبى).. أما الأمثال العامية فهي مثل: (اجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش) (يا واخد القرد على مالُه يروح المال يفضل القرد على حالُه).. فمن الذي قال هذه الأمثال؟ إن قائل هذه الأمثال فئة قليلة من الناس تكون لديها القدرة على الصياغة البليغة الموجزة. وليس كل الناس لديها القدرة على صياغة المثل بهذا الإيجاز والفصاحة. والأنبياء لديهم هذه القدرة في أعلى مظاهرها وأتم صورها.. ثم يأتي في المرتبة الثانية من هو أدنى مرتبة من الأنبياء كالفلاسفة والحكماء الذين يكون لديهم القدرة على صياغة عبارة موجزة يستحسنها الناس شكلاً ومضموناً، فتنتشر بين الناس، ويتناقلها الخلف عن السلف.. ولنأخذ، على سبيل المثال، ملكة سبأ التي قالت: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)النمل:34، وأيضاً زوجة موسى وابنة شعيب عليهما السلام، التي قالت: (إن خير من استأجرت القوي الأمين)القصص:26 ، وقول امرأة العزيز ملكة مصر: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) يوسف:52 وقول مريم عليها السلام: (قل هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) آل عمران:37 .
أما كلام النبي، صلى الله عليه وسلم، فسنجده مليئا بهذه الأمثال كقوله: (أعقلها وتوكل- إنما الأعمال بالنيات- اليد العليا خير من اليد السفلى- من غشنا فليس منا- الحياء شعبة من الإيمان- كل ميسر لما خلق- انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً- إن من البيان لسحرا)... وأيضاً نجد بعض الحكم والأمثال التي جرت على ألسنة بعض العباقرة الذين أثروا في مجرى التاريخ؛ ومن هؤلاء أبي بكر رضي الله عنه، الذي قال: (اطلبوا الموت توهب لكم الحياة). وقول عمر رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) وقولهً: (إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة).
أما المثل العامي فإنه يعتبر كذلك إيضاحاً تجريدياً لمبدأ عام؛ فمثلاً الفلاح الذي تتكرر أمامه حادثة بعثرة الحمار لعليقه (طعامه) عندما يشبع، فإن هذه الحادثة تدفع بعض الفلاحين الأذكياء، أن يشتق منها مثلاً يعمم على الحمير جميعها وهو " إن شبع الحمار بعتر عليقه"[2]. فتكرار هذا الفعل من تلك الدابة جعلت عقل الريفي الذكي يلتقط هذه الحادثة ويضعها في بؤرة اهتمامه Focus of Attention ، ثم يصيغ منها مثلاً شعبياً ينطبق على كل الحمير عندما تشبع، هذا من جانب. ومن جانب ثان، فقد تم نقل هذا المثل من معناه الحسي إلى معناه المجرد، الذي يشير إلى أن الإنسان عندما ينتقل من الفقر إلى الغنى، ومن الكفاف إلى الترف؛ فإنه يتبطر على النعمة ويجحدها. ثم شيء آخر يشي إليه هذا المثل ضمناً ، وهو أن من يفعل هذا الشيء يكون مثله كمثل الحمار الذي يُضرب به المثل في البلادة والغباء.. فهذه الحادثة هي سبب قول هذا المثل، ثم انفصل المثل عن تلك الحادثة كما تنفصل الفراشة عن يرقتها، أو كما تنفصل الطيور عن آبائها وأمهاتها وتعتمد على نفسها. ويصبح بعد ذلك (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، وهي تقابل أسباب النزول في المصطلح الإسلامي.
وتعتبر الأمثال كميزان حق، لا تتغير زمانا ولا مكانا، ويمكن اتخاذها كمقياس ثابت في كل الأزمان وكل البيئات، وهي أقرب أن تكون مفاهيم كلية مجردة، انتقلت من خصوص السبب إلى عموم اللفظ. والقرآن يعتبر حسب هذا المفهوم بمثابة أمثال، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً). وقد صيغت آيات القرآن بالحق الأزلي المطلق، كما قال تعالى:(الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)، وهي بمثابة قضايا أبدية ثابتة، وأمثال يهتدي بها الناس ويسيرون على هداها، وقت الحيرة والاضطراب، والعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.. وعندما جاءت فترة النبوة المحمدية، كانت البلاغة والفصاحة، والدقة في التعبير، والعمق في التأمل.. قد أخذت زخرفها وازيّنت وأنبتت من كل زوج بهيج، وكان في عصر النبوة الزاخر وقائع متعددة، وكان المجتمع آنذاك مجتمعاً تموج فيه كل الأفكار الاجتماعية التي ستوجد حتماً في أي مجتمع من قبل وبعد، وكأن الدنيا عند هذا الزمن استنفدت كل نماذجها المخبوءة، وبعد ذلك الزمن هي ستكرر نفسها فقط. لذا، فقد تم صياغة هذه الأحداث الاجتماعية بهذه الصياغة الإلهية القائمة على الحق والعدل، وهذه الصياغة هي القرآن الكريم الذي نزل على قلب سيد المرسلين. لذلك فهي تصلح للقياس عليها في كل زمان ومكان. وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، ومكانه هو الزمان والمكان الذي تنزل فيه آيات القرآن الكريم، لذلك وجدنا النص القرآني يغفل أسماء الأشخاص، وأعيان المكان، ليصور نماذج البشر وأنماط الطباع. ويغفل تفصيلات الحوادث وجزئيات الوقائع، ليصور القيم الثابتة والسنن الباقية. ويلقي الأضواء على سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبآت الضمائر، ويكشف للنور الأسرار والنوايا والخوالج المستكنة في أعماق الصدور.. هذه الذي لا تنتهي بانتهاء الحوادث ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، ولا تنقطع بانقضاء الملابسات، ومن ثم تبقى قاعدة ومثلاً لكل جيل ولكل قبيل. والنص القرآني معد للعمل- لا في وسط أولئك الذين عاصروا الحادث فحسب. ولكن كذلك للعمل في كل وسط بعد ذلك وفي كل تاريخ. معد للعمل في النفس البشرية إطلاقاً كلما واجهت مثل ذلك الحادث أو شبهه في الآماد الطويلة، والبيئات المنوعة بنفس القوة التي عمل بها في الجماعة الأولى. والقرآن الكريم ليس كتاباً للتلاوة ولا للثقافة..وكفى.. إنما هو رصيد مذخور من الحيوية الدافعة، وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة، متى وجدت القلب الذي يتعاطف معها ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب"[3]
ومعجزة القرآن الكريم لا تتمثل في الأحداث الجزئية فقط، وإنما تتمثل في الصياغة الإلهية لهذه الأحداث، بحيث أن كل آية، وأحياناً كل كلمة، تضرب على وتر كل النفوس الإنسانية في كل زمان ومكان. ولتقريب ذلك، ننظر في نتاج الأدباء- ولله المثل الأعلى- فنجد أن الأدباء يحيون في نفس الزمان، ويعايشون نفس الظروف والأحداث، وينهلون من ثقافة واحدة تقريباً- إلا أنهم يتفاوتون في وصف هذا الواقع.. وبقدر ما يكون أدبهم ونتاجهم غنياً بالدلالات، وقابلاً لشتى التأويلات، بقدر ما يكتب لهذا الأدب من الخلود والبقاء. "أما إذا كان أدبهم ونتاجهم يتزامن بسهولة مع إدراك دلالته، فإن المتعة المتولدة من قراءته ستكون آنية. ويطلق نقاد الأدب على أمثال هذه النصوص (النصوص المغلقة) أي لها معنى واحد بلا زيادة أو نقصان، فهي تغلق الباب أمام أي فهم آخر، وتخلو في نفس الوقت من الغموض، ومن الفضاءات التي تسمح للقارئ أو المتلقي أن يحلق في عالم النص، وأن يملأه بخبراته المعرفية والتأويلية الذاتية. ومن سمات هذه النصوص أن يكون القارئ مستهلكاً للمعنى لا منتجاً له"[4] وهذا هو السر في خلود وبقاء نتاج أديب من الأدباء، حيث ينظر إليه النقاد من زوايا مختلفة، وتتعدد فيه الآراء، وتنقدح فيه الأفكار، كما قال المتنبي: أنام ملء عيوني عن شواردها... ويسهر القوم جرّاها ويختصم
هذا على مستوى الإنسان المخلوق، فكيف بخالق هذا الإنسان عندما يشاء أن ينزل على البشر كتاباً يكون معجزته الكبرى وحجته البالغة التي تقارع العقول وتتحدى البلغاء والفصحاء. بلا شك أننا سنجد كل آية من آياته، وأحياناً كل كلمة، تشع نوراً لا ينطفئ، وتفيض معاني لا تنحصر.. وسنجدها ذات وجوه كثيرة، كالحبة الماسية ذات الوجوه المتعددة، ثمانية أو سداسية، في حين أن كل الوجوه تطلعنا على حقيقة واحدة. من هنا، كان اسم هذا الكتاب "قران كريم" لأنه يعطي بلا انقطاع، ويفيض بلا انتهاء..
ليس المقصود بهذه الآية فقط الروم الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يقصد بالروم الدول الأوربية، ومن صفاتها، أنها ستكون سريعة الانتصار بعد هزيمتها؛ لأن الروم باقية إلى قيام الساعة. وهؤلاء بعد غلبهم وانكسارهم سيعودون إلى الانتصار في سنوات معدودات، وتكون الغلبة للكفر في كل بقاع الدنيا، أكثر من الغلبة للمسلمين. أما قوله تعالى: (و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) فليس المقصود بالفرح هنا، الفرح بانتصار الروم، وإنما المقصود فرح المسلمين بانهزام الروم حين ينهزمون أمام المسلمين، لأن الآية تقول بنصر الله، ونصر الله يكون مع المؤمنين الذي يأتي لصالح الفئة المؤمنة. أما التفسير الذي يقول إن الحرب كانت بين فارس والروم، وفارس لا كتاب لهم، بينما الروم أهل كتاب، لذلك فرح المسلمون بانتصار الروم، أهل الكتاب، فهذا صحيح في وقته، لكن ليس معناه أن يُغلق فهم الآية ويُعطل، فإن هذه الآيات وإن كانت موجهة للمسلمين الأوائل في وقت نزول الوحي، إلا أنها تتعامل مع قضايا أبدية ترتبط بأيامنا الحالية، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: (فَارِسُ نَطْحَةٌ، أَوْ نَطْحَتَانِ، ثُمَّ لا فَارِسَ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَالرُّومُ ذَاتُ الْقُرُونِ كُلَّمَا هَلَكَ قَرْنٌ خَلَّفَ مَكَانَهُ قَرْنَ أَهْلِ صَخْرٍ، وَأَهْلِ بَحْرٍ، هَيْهَاتَ لِآخِرِ الدَّهْرِ، هُمْ أَصْحَابُكُمْ مَا كَانَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ)[5]
ويستدل بهذا الحديث على أن الأوربيين سيبقون إلى آخر الدهر، وأن الآية (غلبت الروم) ليس أمام الفرس، وإنما غلبت الروم أمام المسلمين، فهي تشير إلى قتال المسلمين ضد الأوربيين، وأن الأوربيين سيكونون سريعو الانتصار بعد الانهزام، وستبقى لهم مع المسلمين جولات وصولات إلى آخر الدهر، وكلما غلبوا من المسلمين انتصروا سريعا، واستطاعوا تجميع قواتهم من جديد، والوقوف أمام المسلمين. وهذا الأمر يفسره الحديث المروي عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو أَبْصِرْ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..قَالَ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ)[6]
عند تدبر هذه الآية يتضح منها ثلاث معاني: 1- الرجوع إلى سبب النزول وهو التفسير المتداول في كتب التفسير؛ فقد قيل أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ ، وكانت له جاريتان إحداهما تسمى معاذة والأخرى مسيكة ، وكان يكرههما على الزنى ويضربهما عليه ابتغاء الأجر وكسب الولد فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين"[7] وهذه الآية تشير إلى أن عدم أكراه هؤلاء الجواري على ارتكاب هذه الفاحشة الشنيعة من أجل المال أو من أجل شيء آخر، فإن أكرهت هذه الجارية وكانت تحس بوطأة هذا الجرم الذي ترتكبه على نفسها، فإن الله يقول لها هوني عليك، فإن الله من وراء هذا الإكراه غفور رحيم، فالله أعلم بالنيات والسرائر..( فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم)..
2- المعنى الثاني لهذه الآية: لا يكره الأب ابنته على الزواج من رجل لا تحبه، فقد يختار ولي الأمر رجلا طاعنا في السن زوجا لابنته يراه أنسب الأزواج، لأنه يتميز بالثراء العريض أو الوجاهة الاجتماعية.. وقد يختار ولي الأمر زوجا لابنته لأنه مدين لذلك الرجل بدين مادي أو أدبي يدفع مقابله ابنته عوضا عنه، وقد يزوج ابنته إلى رجل، لأنه عقد العهد مع أسرته، أو أعطى الكلمة لوالده منذ أن كانت ابنته في المهد صبية، ويرى أنه ليس من الشهامة أن يتراجع عن قراره.. وإلى غير ذلك من الأسباب.. وربما يتطور الأمر فيهدد بحرمان ابنته من الميراث حتى تنزل على رغبته، وتذعن لقراره، فتضطر إلى القبول كيلا تتهم بالعقوق ونكران الجميل، وتتم الزيجة على مضض، فيكتنف حياتهما المتاعب والصعاب من عدم التوافق والتآلف والانسجام، فتتحول الحياة إلى تعاسة وشقاء، وربما أدت إلى الخيانة والانحراف.. فإن الأب إن فعل ذلك فكأنه أكرهها على البغاء، لأن أعز ما تملكه المرأة هو جسدها، فهي لابد أن تشعر بأنه تمارس البغاء عندما تسلم جسدها لزوج لا تحبه، أجبرت عليه فقط من أجل أمواله، كما تجبر البغايا على ذلك من أجل الأموال فقط.. وهذا معنى قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء، إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).. وهذا المعنى يتضح بجلاء عند قراءة صدر الآية نفسها والتي تقول: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) ففي هذه الآية طلب من الأب بأن يزوج ابنته، من الصالحين حتى ولو كانوا فقراء، ولا يكون معيار الأب في الرجل المتقدم للزواج من ابنته المال فقط!
3-والمعنى الثالث لهذه الآية يدور حول معنى كلمة البغاء في قواميس اللغة، حيث ورد معنى البغي: طلب الفساد، والعرب تقول خرج الرجل في بغاء إبلٍ له ، أي في طلبها ، ويقال: بَغَى الرجلُ الخير والشر بُغاءً وبِغْيَة ، ومنه قوله تعالى: فمن اضْطُر غيرَ باغِ ولا عادٍ.. فمعنى البَغْي قصدُ الفساد، يقال: فلان يَبْغي على الناس أي يظلمهم ويطلب أَذاهم، والفِئَةُ الباغيةُ: هي الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل[8]. وعلى هذا المعنى يكون قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) يعني لا تكرهوهن على الفساد والظلم والتعدي، من أجل كسب الأموال لكم.. فكأن الأب الذي يظلم ابنته بحرمانها من الإنفاق عليها، فكأنه هو الذي أجبرها أن تلتمس له الأموال من الناس من طريق النصب والاحتيال والضحك عليهم والإيقاع بهم، وبهذا تكون قد أرادت الشر أو طلبت الفساد..
---------------------------------------------------------- [1] العمدة في محاسن الشعر وآدابه: ابن رشيق القيرواني؛ باب المثل السائر. [2] البطولة في القصص الشعبي: نبيلة سالم، دار المعارف، القاهرة . [3] في ظلال القرآن: سيد قطب، جـ5/ 2836 [4]مجلة عالم الفكر: زهرة أحمد علي، استشراف المنظومة الأدبية لصقر الشبيب، ص236 العدد الرابع، إبريل 1997. [5] مسند بن ابي شيبة، وزوائد الهيثمي. [6] صحيح مسلم. [7] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، تفسير سورة النور. [8] ( تفسير الماوردى ) النكت والعيون، سورة البقرة آية 173
فهم القرآن والمثل بين التجريد والتجسيد بقلم: د.نافذ الشاعر