هذا كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته الفصل الأخير من كتاب أسرار البلاغة
كاتب الموضوع
رسالة
أشرف على
مؤسس الدعم التطويرى
عدد المساهمات : 2842 تاريخ التسجيل : 23/10/2012
موضوع: هذا كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته الفصل الأخير من كتاب أسرار البلاغة السبت نوفمبر 03, 2012 5:52 pm
هذا كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته
المجاز مَفْعَلٌ من جازَ الشيءَ يَجُوزه، إذا تعدَّاه، وإذا عُدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وُصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعَه الأصليَّ، أو جاز هو مكانه الذي وُضع فيه أوَّلاً، ثُمَّ اعلم بَعْدُ أنَّ في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطاً، وهو أن يقع نَقْلُه علي وجهٍ لا يَعْرَى معه من ملاحظة الأصل، ومعنى الملاحظة، أن الاسم يقع لما تقول إنه مجاز فيه، بسببٍ بينه وبين الذين تجعله حقيقةً فيه، نحو أن اليد تقع للنعمة، وأصلها الجارحة، لأجل أن الاعتبارات اللغوية تتبع أحوال المخلوقين وعاداتهم، وما يقتضيه ظاهر البِنْيَة وموضوع الجِبِلّة، ومن شأن النعمة أن تصدُر عن اليد، ومنها تصل إلى المقصودِ بها، وفي ذكر اليد إشارةٌ إلى مَصْدَرِ تلك النعمةِ الواصلةِ إلى المقصود بها، والموهوبةِ هي منه، وكذلك الحكم إذا أريد باليد القوة والقدرة، لأن القدرة أثر ما يظهر سُلطانها في اليد، وبها يكون البطش والأَخذُ والدفعُ والمنعُ والجذبُ والضربُ والقطعُ، وغيرِ ذلك من الأفاعيل التي تُخبر فَضْلَ إخبارٍ عن وجوه القُدْرة، وتُنبئ عن مكانها، ولذلك تجدهم لا يريدون باليد شيئاً لا ملابسة بينه وبين هذه الجارحة بوجهٍ. ولوجوب اعتبار هذه النكتة في وصف اللَّفْظ بأنه مجاز، لم يَجُز استعماله في الألفاظ التي يقع فيها اشتراك من غير سبب يكون بين المشترِكَيْن، كبعض الأسماء المجموعة في المَلاحن، مِثْلُ أن الثَّوْرَ يكون اسما للقطعة الكبيرة من الأَقِطِ، والنهار اسمٌ لفرخ الحُبَارَى، والليل، لولد الكَرَوان، كما قال: أكَلْتُ النَّهار بِنِصْفِ النَّهارِ ... ولَيْلاً أكلتُ بلَيْلٍ بَهِيم
وذلك أن اسم الثور لم يقع على الأقط لأمرٍ بينه وبين الحيوان المعلم، ولا النهار على الفرخ لأمْرٍ بينه وبين ضوء الشمس، أدّاه إليه وساقه نحوه، والغرضُ المقصود بهذِه العبارة - أعني قولَنا: المجازُ - أن نبيّن أن للَّفظ أَصلاً مبدوءاً به في الوضع ومقصوداً، وأنَّ جريه على الثاني إنما هو على سبيل الحُكْم يتأدَّى إلى الشيء من غيره، وكما يعبَق الشيءُ برائحةِ مايجاورُه، وَينْصَبغ بلونِ ما يدانيه، ولذلك لم ترهم يُطلقون المجاز في الأعلام، إطلاقَهم لفظ النَّقل فيها حيث قالوا: العَلَمُ على ضربين منقولٌ ومرتجلٌ، وأن المنقول منها يكون منقولاً عن اسم جنسٍ، كأسد وثور وزيد وعمرو، أو صفةٍ، كعاصم وحارث، أو فعل، كيزيد ويشكر أو صَوْتٍ كبَبَّة، فأثبتوا لهذا كله النَّقل من غير العَلَمية إلى العلمية، ولم يروا أن يصِفُوه بالمجاز فيقولوا مثلاً: إن يشكر حقيقة في مضارع شَكَرَ، ومجاز في كونه اسم رجل وأن حَجَراً حقيقة في الجماد، ومجازٌ في اسم الرجل، وذلك أن الحجر لم يقع اسماً للرجل لالتباسٍ كان بينه وبين الصخر، على حسب ما كان بين اليد والنعمة، وبينها وبين القدرة ولا كما كان بين الظَّهر الكامل وبين المحمول في نحو تسميتهم المزادة راوية، وهي اسم للبعير الذي يحملها في الأصل وكتسميتهم البعير حَفَضاً، وهو اسم لمتاع البيت الذي حُمَل عليه ولا كنحو ما بين الجزء من الشخص وبين جملة الشخص، كتسميتهم الرجل عَيْناً، إذا كان ربيئةً، والناقةَ ناباً ولا كما بين النَّبت والغيث، وبين السماء والمطر، حيث قالوا: رعينا الغيثَ، يريدون النبتَ الذي الغيث سببٌ في كونه وقالوا: أصابنا السماء، يريدون المطر، وقال " تَلُفُّهُ الأَرْوَاحُ والسُمِيُّ " وذلك أن في هذا كله تأوُّلاً، وهو الذي أفضى بالاسم إلى ما ليس بأصل فيه فالعين لما كانت المقصودة في كون الرجل ربيئةً، صارت كأنها الشخص كلُّه، إذْ كان ما عداها لا يُغنى شيئاً مع فقدها و الغيث، لمَّا كان النبت يكون عنه، صار كأنه هو والمطر لما كان ينزل من السماء، عبروا عنه باسمها. واعلم أن هذه الأسباب الكائنةَ بين المنقول والمنقول عنه، تختلف في القوة والضعف والظهور وخلافه، فهذه الأسماء التي ذكرتها، إذا نظرتَ إلى المعاني التي وصلت بين ما هي له، وبين ما رُدَّت إليه، وجدتها أقوى من نحو ما تراه في تسميتهم الشاةَ التي تُذبَح عن الصبيِّ إذا حُلِقَتْ عقيقتُه، عقيقةً وتجد حالها بعدُ أقوى من حال العَقِيرة، في وقوعها للصوت في قولهم: رَفع عقِيرته، وذلك أنَّه شيء جرى اتفاقاً، ولا معنَى يصل بين الصَّوت وبين الرِجْل المعقورة، على أن القياس يقتضي أن لا يسمَّى مجازاً، ولكن يُجرَى مُجْرَى الشيء يُحكَى بعد وُقُوعه، كالمَثَل إذا حُكَي فيه كلامٌ صَدَر عن قائله من غير قَصْدٍ إلى قياس وتشبيه، بل للإخبار عن أمر مَن قَصَده بالخطاب كقولهم: الصَّيْفَ ضَيَّعَتِ اللَّبن، ولهذا الموضع تحقيق لا يتمّ إلاّ بأن يوضع له فصل مُفْرَدٌ. والمقصود الآن غير ذلك، لأن قصدي في هذا الفَصْل أن أبيّن أن المجازَ أعمُّ من الاستعارة، وأن الصحيح من القضيّة في ذلك: أن كلَّ استعارةٍ مجازٌ، وليس كلُّ مجازٍ استعارة، وذلك أنّا نرى كلامَ العارفين بهذا الشأن أعني علم الخطابة ونَقْدِ الشعر، والذين وضعوا الكتب في أقسام البديع، يجري على أن الاستعارة نقلُ الاسم من أصله إلى غيره للتشبيه على حدِّ المبالغة، قال القاضي أبو الحسن في أثناء فَصْلٍ يذكرها فيه: ومِلاكُ الاستعارة، تقريب الشَّبه، ومناسبة المستعار للمستعار منه، وهكذا تراهم يعدّونها في أقسام البديع، حيث يُذكر التجنيس والتطبيق والترشيح وردُّ العجز على الصدر وغير ذلك، من غير أن يشترطوا شرطاً، ويُعقِبُوا ذِكرَها بتقييد فيقولوا: ومن البديع الاستعارةُ التي من شأنها كذا، فلولا أنها عندهم لنَقْل الاسم بشرط التشبيه على المبالغة، وإمَّا قَطْعاً وإمَّا قريباً من المقطوع عليه، لما استجازوا ذكرها، مطلقةً غير مقيّدة، يبيِّن ذلك أنها إن كانت تُساوِقُ المجازَ وتجري مَجْراه حتى تصلح لكل ما يصلح له، فذِكْرُها في أقسام البديع يقتضي أن كل موصوف بأنه مجازٌ، فهو بديع عندهم، حتى يكون إجراءُ اليد على النعمة بديعاً، وتسمية البعير حَفَضاً، والناقةِ ناباً، والربيئةِ عيناً، والشاةِ عقيقةً
بديعاً كله، وذلك بيّن الفساد. وأمَّا ما تجده في كتب اللغة من إدخال ما ليس طريقُ نقله التشبيه في الاستعارة، كما صنع أبو بكر بن دريد في الجمهرة، فإنه ابتدأ بَاباً فقال: باب الاستعارات ثم ذكر فيه أن الوغَى اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كَثُر وصارت الحرب وَغىً، وأنشد:بديعاً كله، وذلك بيّن الفساد. وأمَّا ما تجده في كتب اللغة من إدخال ما ليس طريقُ نقله التشبيه في الاستعارة، كما صنع أبو بكر بن دريد في الجمهرة، فإنه ابتدأ بَاباً فقال: باب الاستعارات ثم ذكر فيه أن الوغَى اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كَثُر وصارت الحرب وَغىً، وأنشد: إضْمَامَةٌ مِن ذَوْدِها الثَّلاثينْ ... لَهَا وغًى مِثْل وَغَى الثَّمانينْ يعني اختلاط أصواتها وذكر قولهم: رعَيْنَا الغيث والسَّماء، يعني المطر وذكر ما هو أبعد من ذلك فقال: الخُرْس، ما تُطْعَمُه النُّفَساء، ثم صارت الدَّعوة للولادة خُرْساً والإعذار الختان، وسُمّي الطعام للختان إعْذَاراً وأن الظعينة أصلها المرأة في الهَوْدَج، ثم صار البعير والهودج ظَعِينَةً والخَطْرُ ضرب البعير بذنبه جانبي وَرِكيه، ثم صار مالصِق من البول بالوركين خَطْراً، وذكر أيضاً الرَّاوية بمعنى المزادة، والعقيقةَ، وذكر فيما بين ذِكْرِه لهذه الكلم أشياءَ هي استعارةٌ على الحقيقة، على طريقة أهل الخطابة ونقد الشعر، لأنه قال: الظمأ، العطشُ وشهوةُ الماء، ثم كثر ذلك حتى قالوا: ظمِئتُ إلى لقائك، وقال: الوَجُورُ ما أوجرته الإنسان من دَواءٍِ أو غيره، ثم قالوا: أَوْجَره الرمحَ، إذا طعنه في فيه. فالوجه في هذا الذي رأوه من إطلاق الاستعارة على ما هو تشبيه، كما هو شرط أهل العلم بالشعر، وعلى ما ليس من التشبيه في شيءٍ، ولكنه نقلُ اللفظ عن الشيء إلى الشيء بسبب اختصاصٍ وضربٍ من الملابسة بينهما، وخَلْطِ أحدهما بالآخر أنهم كانوا نظروا إلى ما يتعارفه الناس في معنى العاريَّة، وأنها شيءٌ حُوِّل عن مالكه ونُقل عن مقرّه الذي هو أصلٌ في استحقاقه، إلى ما ليس بأصل، ولم يُراعوا عُرْف القوم، ووِزانهم في ذلك وِزَانُ من يترك عُرف النحويين في التمييز، واختصاصهم له بما احتمل أجناساً مختلفةً كالمقادير والأعداد وما شاركهما، في أن الإبهام الذي يراد كشْفُه منه هو احتماله الأجناس، فيُسمِّي الحالَ مثلاً تمييزاً، من حيث أنك إذا قلت: راكباً، فقد ميَّزت المقصود وبيّنته، كما فعلت ذلك في قولك: عشرون درهماً ومَنَوَانِ سمناً وقَفِيزان بُرّاً ولي مثلُهُ رجلاً وللَّه درَّه رجلاً. وليس هذا المذهب بالمذهب المرضيّ، بل الصواب أن تُقصَر الاستعارة على ما نقْلُه نَقْلُ التشبيه للمبالغة، لأن هذا نقلٌ يَطّرد على حدٍّ واحد، وله فوائد عظيمة ونتائج شريفة، فالتطفُلُ به على غيره في الذكر، وتركُه مغموراً فيما بين أشياءَ ليس لها في نقلها مِثْلُ نظامه ولا أمثالُ فوائده، ضعفٌ من الرأي وتقصيرٌ في النظر. وربما وَقع في كلام العلماء بهذا الشأن الاستعارةُ على تلك الطريقة العامّية، إلا أنه لا يكون عند ذكر القوانين وحيث تُقرَّرُ الأصول، ومثاله أن أبا القاسم الآمدي قال في أثناء فصل يُجيب فيه عن شيءٍ اعتُرض به على البحتري في قوله: فكأَنَّ مَجْلِسَهُ المُحجَّبَ مَحْفِلٌ ... وكأَنَّ خَلْوَتَه الخفيَّةَ مَشْهَدُ
أن المكانَ لا يسمَّى مجلساً إلاَّ وفيه قوم، ثم قال: ألا ترى إلى قول المُهَلْهل " واستَبَّ بَعْدَك يا كُلَيْبُ المجلس " على الاستعارة، فأطلق لفظ الاستعارة على وقوع المجلس هنا، بمعنى القوم الذين يجتمعون في الأمور، وليس المجلس إذا وقع على القوم من طريق التشبيه، بل على حدِّ وقوع الشيء على ما يتَّصلُ به، وتكثُر ملابَستُه إياه، وأيُّ شبه يكون بين القوم ومكانهم الذي يجتعون فيه؟ إلاّ أنه لا يُعتدُّ بمثل هذا فإنَّ ذلك قد يتَّفق حيث تُرسَل العبارة، وقال الآدميُّ نفسه: ثم قد يأتي في الشعر ثلاثة أنواع أُخَر، يكتسي المعنى العامّ بِها بهاءً وحسناً، حتى يخرج بعد عمومه إلى أن يصير مخصوصاً ثم قال: وهذه الأنواع هي التي وقع عليها اسم البَديع، وهي الاستعارة والطباق والتجنيس. فهذا نصٌّ في وضع القوانين على أن الاستعارة من أقسام البديع، ولن يكون النَّقلُ بديعاً حتى يكون من أجل الشبيه على المبالغة كما بيَّنتُ لك، وإذا كان كذلك، ثم جعل الاستعارة على الإطلاق بديعاً، فقد أعلمك أنها اسم للضرب المخصص من النَّقل دون كُلِّ نَقْل فاعرف. واعلم أنَّا إذا أنعمنا النظر، وجدنا المنقول من أجل التشبيه على المبالغة، أحقَّ بأن يوصف بالاستعارة من طريق المعنى، بيان ذلك أن مِلك المُعِير لا يزول عن المستعار، واستحقاقُه إيّاه لايرتفع، فالعاريّة إنما كانت عاريّةً، لأن يَدَ المستعير يدٌ عليها، ما دامت يدُ المعير باقية، ومِلْكه غيرُ زائل، فلا يُتصوَّر أن يكون للمستعير تصرُّفٌ لم يستفده من المالك الذي أعاره، ولا أنْ تستقرّ يدُه مع زوالِ اليد المنقول عنها، وهذه جملةٌ لا تراها إلاّ في المنقول نقلَ التشبيه، لأنك لا تستطيع أن تتصوَّر جَرْيَ الاسم على الفَرْع من غير أن تُحوِجَه إلى الأصل، كيف ولا يُعقَل تشبيهٌ حتى يكون هاهنا مشبّه ومشبَّه به، هذا والتشبيه ساذَجٌ مُرْسل، فكيف إذا كان على معنى المبالغة، على أن يُجعل الثاني أنه انقلب مثلاً إلى جنس الأوَّل، فصار الرجلُ أسداً وبَحراً وبدراً، والعلم نُوراً، والجهلُ ظلمةً، لأنّه إذا كان على هذا الوجه، كانت حاجتُك إلى أن تنظر به إلى الأصل أَمَسَّ، لأنه إذا لم يُتصوَّر أنْ يكون هاهنا سبعٌ من شأنه الجرأة العظيمةُ والبطشُ الشديد، كان تقديرك شيئاً آخر تَحوَّلَ إلى صفته وصار في حكمه من أبعد المُحال. وأمَّا ما كان منقولاً لا لأجل التشبيه، كاليد في نقلها إلى النعمة، فلا يوجد ذلك فيه، لأنك لا تُثبت للنعمة بإجراء اسم اليد عليها شيئاً من صفات الجارحة المعلومة، ولا تروم تشبيهاً بها ألبتة، لا مبالغاً ولا غير مبالغ، فلو فرضنا أن تكون اليد اسماً وضع للنعمة ابتداءً، ثم نُقلت إلى الجارحة، لم يكن ذلك مستحيلاً، وكذلك لو ادّعَى مدَّعٍ أنّ جَرْيَ اليدِ على النعمة أصلٌ ولغةٌ على حِدَتها، وليست مجازاً، لم يكن مدَّعياً شيئاً يحيله العقلُ، ولو حاول مُحاولٌ أن يقول في مسألتنا قولاً شبيهاً بهذا فرام تقدير شيءٍ يجري عليه اسم الأسد على المعنى الذي يريده بالاستعارة، مع فقد السبُعِ المعلوم، ومن غير أن يسبقَ استحقاقه لهذا الاسم في وضع اللغة، رام شيئاً في غاية البعد. وعبارةٌ أخرى العاريّة من شأنها أن تكون عند المستعير على صفةٍ شبيهةٍ بصفتها وهي عند المالك، ولسنا نجد هذه الصورة إلا فيما نُقل نَقْلَ التشبيه للمبالغة دون ما سواه، ألا ترى أن الاسم المستعار يتناول المستعارَ له، ليدلَّ على مشاركته المستعار منه في صفةٍ هي أخصُّ الصفات التي من أجلها وُضع الاسم الأول؟ أعني أن الشجاعة أقوى المعاني التي من أجلها سُمّي الأسد أسداً، وأنت تستعير الاسم للشيء على معنى إثباتها له على حدّها في الأسد. فأما اليد ونقلُها إلى النعمة، فليست من هذا في شيءٍ، لأنها لم تتناول النعمةَ لتدلَّ على صفة من صفات اليد بحال، ويحرِّر ذلك نكتةٌ: وهي أنك تريد بقولك: رأيت أسداً، أن تُثبِتَ للرجل الأسدية، ولست تريد بقولك: له عندي يَدٌ، أن تُثبت للنعمة اليديّة، وهذا واضحٌ جدّاً. واعلم أنَّ الواجب كان أن لا أَعُدَّ وضع الشفةِ موضع الجحفلة، والجحفلة في مكان المِشْفَر، ونظائره التي قدَّمتُ ذكرها في الاستعارة، وأضَنَّ باسمها أن يقع عليه، ولكني رأيتُهم قد خَلَطوه بالاستعارات وعَدُّوه مَعَدَّها، فكرِهتُ التشدّد في الخلاف
واعتددت به في الجملة، ونبَّهت على ضعف أمره بأن سمّيتُه استعارةً غير مُفيدة، وكان وزان ذلك وِزان أن يقال: المفعول على ضربين مفعول صحيح، ومشبّه بالمفعول، فيُتجوَّز باعتداد المشبَّه بالمفعول في الجملة، ثم يفصل بالوصف، ووجهُ شَبَهِ هذا النحو الذي هو نَقْلُ الشفة إلى موضع الجحفلة بالاستعارة الحقيقية، لأنك تنقل الاسم إلى مجانسٍ له، ألا ترى أنّ المراد بالشفة والجحفلة عضوٌ واحد، وإنما الفرق أنّ هذا من الفَرَس، وذاك من الإنسان، والمجانسة والمشابهة من وادٍ واحد؟ فأنت تقول: أعير الشيءُ اسمَه الموضوعَ له هنالك أي في الإنسان - هاهنا - أي في الفرس - ، لأن أحدهما مثل صاحبه وشريكه في جنسه، كما أعرت الرجلَ اسم الأسد، لأنه شاركه في صفته الخاصّة به، وهي الشجاعة البليغة، وليس لليد مع النعمة هذا الشبه، إذ لا مجانسة بين الجارحة وبين النعمة، وكذا لا شَبَهَ ولا جنسيةَ بين البعير ومَتَاعِ البيت، وبين المزادة وبين البعير، ولا بين العين وبين جملة الشخص فإطلاق اسم الاستعارة عليه بعيدٌ. ولو كان اللفظ يستحقّ الوَصْف بالاستعارة بمجرَّد النقل، لجاز أن توصف الأسماء المنقولة من الأجناس إلى الأعلام بأنها مستعارة، فيقال: حَجَرٌ، مستعار في اسم الرجل، ولزم كذلك في الفعل المنقول نحو: يزيد ويشكر وفي الصوت نحو: بَبَّة في قوله:واعتددت به في الجملة، ونبَّهت على ضعف أمره بأن سمّيتُه استعارةً غير مُفيدة، وكان وزان ذلك وِزان أن يقال: المفعول على ضربين مفعول صحيح، ومشبّه بالمفعول، فيُتجوَّز باعتداد المشبَّه بالمفعول في الجملة، ثم يفصل بالوصف، ووجهُ شَبَهِ هذا النحو الذي هو نَقْلُ الشفة إلى موضع الجحفلة بالاستعارة الحقيقية، لأنك تنقل الاسم إلى مجانسٍ له، ألا ترى أنّ المراد بالشفة والجحفلة عضوٌ واحد، وإنما الفرق أنّ هذا من الفَرَس، وذاك من الإنسان، والمجانسة والمشابهة من وادٍ واحد؟ فأنت تقول: أعير الشيءُ اسمَه الموضوعَ له هنالك أي في الإنسان - هاهنا - أي في الفرس - ، لأن أحدهما مثل صاحبه وشريكه في جنسه، كما أعرت الرجلَ اسم الأسد، لأنه شاركه في صفته الخاصّة به، وهي الشجاعة البليغة، وليس لليد مع النعمة هذا الشبه، إذ لا مجانسة بين الجارحة وبين النعمة، وكذا لا شَبَهَ ولا جنسيةَ بين البعير ومَتَاعِ البيت، وبين المزادة وبين البعير، ولا بين العين وبين جملة الشخص فإطلاق اسم الاستعارة عليه بعيدٌ. ولو كان اللفظ يستحقّ الوَصْف بالاستعارة بمجرَّد النقل، لجاز أن توصف الأسماء المنقولة من الأجناس إلى الأعلام بأنها مستعارة، فيقال: حَجَرٌ، مستعار في اسم الرجل، ولزم كذلك في الفعل المنقول نحو: يزيد ويشكر وفي الصوت نحو: بَبَّة في قوله: لأُنْكِحَنَّ بَبّهْ ... جَارِيةً خِدَبَّة مُكْرَمَةً مُحبَّهْ ... تُجبُّ أهْلَ الكعبَهْ
وذلك ارتكابٌ قبيح، وفَرْطُ تعصُّبٍ على الصواب، ويلوح هاهنا شيء، هو أنّا وإنْ جعلنا الاستعارة من صفة اللفظ فقلنا: اسم مستعارٌ، وهذا اللفظ استعارةٌ هاهنا وحقيقةٌ هناك، فإنّا على ذلك نُشير بها إلى المعنى، من حيث قصدنا باستعارة الاسم، أنْ نُثبِتَ أخصَّ معانيه للمستعار له، يدلّك على ذلك قولنا: جعله أسداً وجعله بدراً وجعل للشمال يداً، فلولا أنّ استعارةَ الاسم للشيء تتضمّن استعارةَ معناه له، لما كان هذا الكلام معنًى، لأن جَعَلَ، لا يصلح إلا حيث يُرَاد إثبات صفة للشيء، كقولنا: جعله أميراً، وجعله لِصّاً، نريد أنه أثبت له الإمارة واللصوصية، وحكمُ جَعَلَ إذا تعدَّى إلى مفعولين، حكم صَيَّرَ، فكما لا تقول: ًصيَّرتُه أميراً إلا على معنى أنك أثبتَّ له صفة الإمارة، وكذلك لم تقل: جعله أسداً إلا على أنه أثبت له معنًى من معاني الأسود، ولا يقال: جعلته زيداً، بمعنى سمّيته زيداً، ولا يقال للرجل: اجعل ابنك زيداً بمعنى سَمِّهِ، ولا يقال: وُلد لفلانٍ ابنٌ فجعله زيداً أي: سمّاه زيداً، وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يُحصِّل هذا الشأن، فأما قوله تعالى: " وَجَعَلُوا المَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إنَاثاً " " الزخرف: 19 " ، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتُها، وذلك أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث، واعتقدوا وجودها فيهم، وعن هذا الاعتقاد صَدَر عنهم ما صدَر من الاسم - أعني إطلاقَ اسم البنات، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ الإناث، أو لفظَ البناتِ، اسماً من غير اعتقادِ معنًى، وإثباتِ صفةِ، هذا محالٌ لا يقوله عاقل - أوَ ما يسمعون قول اللَّه عز وجل: " أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُون " " الزخرف: 19 " ، فإن كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنًى، فأيُّ معنى لأن يقال: أَشهدوا خلقهم هذا ولو كانوا لمَْ يقصدوا إثبات صفةٍ، ولم يفعلوا أكثر من أن وَضَعُوا اسماً، لَمَا استحقُّوا إلاّ اليسيرَ من الذمّ، ولما كان هذا القولُ كُفْراً منهم، والأَمرُ في ذلك أظهر من أن يخفى ولكن قَدْ يكون للشيء المستحيل وجوهٌ في الاستحالة فتُذكَر كلُّها، وإن كان في الواحِد منها ما يُزيل الشُبْهة ويُتمُّ الحُجَّةَ. فصل في تقسيم المجاز إلى اللغوي والعقلي، واللغوي إلى الاستعارة وغيرها
واعلم أن المجاز على ضربين: مجازٌ من طريق اللغة، ومجازٌ من طريق المعنى والمعقول، فإذا وصفنا بالمجاز الكلمة المُفردة كقولنا: اليد مجاز في النعمة والأسد مجازٌ في الإنسان وكلِّ ما ليس بالسبع المعروف، كان حُكماً أجريناه على ما جرى عليه من طريق اللغة، لأنا أردنا أنّ المتكلم قد جاز باللفظة أصلها الذي وقعت له ابتداءً في اللغة، وأوقعها على غير ذلك، إمَّا تشبيهاً،و وإمَّا لصلةٍ وملابَسةٍ بين ما نقلها إليه وما نقلها عنه، ومتى وصفنا بالمجاز الجملةَ من الكلام، كان مجازاً من طريق المعقول دون اللغة، وذلك أن الأوصاف اللاّحقة للجُمل من حيث هي جُمَل، لا يصحُّ رَدُّها إلى اللغة، ولا وجهَ لنسبتها إلى واضعها، لأن التأليف هو إسنادُ فعلٍ إلى اسم، واسم إلى اسم، وذلك شيءٌ يحصُلُ بقصد المتكلم، فلا يصير ضَرَبَ خبَراً عن زيد بواضع اللغة، بل بمن قصد إثبات الضرب فعلاً له، وهكذا: ليضربْ زيدٌ، لا يكون أمراً لزيد باللغة، ولا اضرب أمرا لِلرجل الذي تخاطبه وتُقبل عليه من بين كلِ من يصحّ خطابُه باللغة، بل بك أيُّها المتكلم، فالذي يعود إلى واضع اللغة، أنّ ضَرَبَ لإثبات الضرب، وليس لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمانٍ ماضٍ، وليس لإثباته في زمانٍ مستقبَل، فأمَّا تعيين من يُثَبت له، فيتعلّق بمن أراد ذلك من المخبِرين بالأمور، والمعبِّرين عن ودائع الصُّدور، والكاشفين عن المقاصد والدَّعاوى، صادقةً كانت تلك الدعاوى أو كاذبةً ومُجْرَاةً على صحتها، أو مُزالةً عن مكانها من الحقيقة وجهتها ومطلَقةً بحسب ما تأذن فيه العقول وترسُمه أو معدولاً بها عن مراسِمها نَظْماً لها في سلك التَّخِييل، وسلوكاً بها في مذهب التأويل، فإذا قلنا مثلاً: خَطٌّ أَحسنُ مما وشَّاه الربيع أو صَنَعه الربيع، وكنّا قد ادعينا في ظاهر اللفظ أن للربيع فعلاً أو صُنْعاً، وأنه شارَك الحيَّ القادر في صحَّة الفعل منه، وذلك تجوُّزٌ من حيث المعقول لا من حيث اللغة، لأنه إن قلنا: إنه مجازٌ من حيث اللغة، صرنا كأنَّا نقول: إن اللغة هي التي أوجبت أن يختصَّ الفعلُ بالحيّ القادر دون الجمادِ، وإنها لو حَكَمَتْ بأنّ الجماد يصحّ منه الفعل والصُّنْعُ والوشيُ والتزيين، والصِّبْغ والتحسين، لكان ما هو مجازٌ الآن حقيقةً، ولعاد ما هو الآن متأوَّلٌ، معدوداً فيما هو حقٌّ مُحصَّل، وذلك محالٌ، وإنما يُتصوَّر مثل هذا القولِ في الكَلِم المفردة، نحو اليد للنعمة، وذاك أنه يصحُّ أن يقال: لو كان واضع اللغة وضع اليد أوّلاً للنعمة، ثم عدَّاها إلى الجارحة، لكان حقيقةً فيما هو الآن مجازٌ، ومجازاً فيما هو حقيقة فلم يكن بواجبٍ من حيث المعقول أن يكون لفظ اليد اسماً للجارحة دون النعمة، ولا في العقل أن شيئاً بلفظٍ، أن يكون دليلاً عليه أولى منه بلفظ، لا سيما في الأسماء الأُوَل التي ليست بمشتقّة، وإنما وِزان ذلك وِزان أشكال الخطّ التي جُعلت أَماراتٍ لأجراس الحروف المسموعة، في أنه لا يُتصوَّر أن يكون العقل اقتضى اختصاصَ كل شكل منها بما اختُصَّ به، دون أن يكون ذلك لاصطلاحٍ وَقَع وتواضعٍ اتَّفق، ولو كان كذلك، لم تختلف المواضعات في الألفاظ والخطوط، ولكانت اللغات واحدةً، كما وجبَ في عقل كل عاقل يحصِّل ما يقولُ، أن لا يُثْبَت الفعل على الحقيقة إلا للحيِّ القادر، فإن قلت: فإن اللغة رسمت أن يكون فَعَلَ لإثبات الفعل للشيء كما زعمتَ، ولكنّا إذا قلنا: فعل الربيع الوشيَ أو وَشَّى الربيع، فإننا نريد بذلك معنًى معقولاً، وهو أن الربيع سببٌ في كون الأنوار التي تُشبه الوَشْي،، فقد نقلنا الفعل عن حُكمٍ معقولٍ وُضع له، إلى حكم آخر معقولٍ شبيهٍ بذلك الحكم، فصار ذلك كنقل الأسد عن السبع إلى الرجل الشبيه به في الشجاعة، أفتقول: الأسد على الرجل مجازٌمن حيث المعقول، لا من حيث اللغة، كما قلت في صيغة: فَعَلَ إذا أُسنِدت إلى ما لا يصحّ أن يكون له فِعْلٌ إنّها مجازٌ من جهة العقل، لا من جهة اللغة. فالجواب أن بينهما فرقاً، وإن ظننتهما متساويين، وذلك أن فَعَلَ موضوع لإثبات الفعل للشيء على الإطلاق، والحكم في بيان من يستحق هذا الإثبات وتعيينُه إلى العقل، وأما الأسد فموضوع للسبع قطعاً، واللغة هي التي عيّنت المستحقَّ له، وبرَسْمها وحُكمِها ثبت هذا الاستحقاق والاختصاص، ولولاَ نَصُّها لم
يُتصوَّر أن يكون هذا السَّبع بهذا الاسم أوْلَى من غيره، فأمّا استحقاق الحيّ القادر أن يُثبَت الفعل له واختصاصه بهذا الإثبات دون كل شيء سواه، فبفرض العقل ونصِّهِ لا باللغة، فقد نقلتَ الأسد عن شيء هو أصل فيه باللغة لا بالعقل، وأمَّا فَعَلَ فلم تنقله عن الموضع الذي وضعته اللغة فيه، لأنه كما مضى، موضوع لإثبات الفعل للشيء في زمان ماضٍ، وهو في قولك: فَعَلَ الربيع باقٍ على هذه الحقيقة غير زائلٍ عنها، ولن يستحقَّ اللفظُ الوصفَ بأنه مجازٌ، حتى يجريَ على شيء لم يوضع له في الأصل، وإثبات الفعل لغير مستحقِّه، ولما ليس بفاعل على الحقيقة، لا يُخرِج فَعَلَ عن أصله، ولا يجعله جارياً على شيء لم يوضع له، لأن الذي وُضعَ له فَعَلَ هو إثبات الفعل للشيء فقط، فأمّا وَصْف ذلك الشيء الذي يقع هذا الإثبات له، فخارجٌ عن دلالته، وغير داخلٍ في الموضع اللغويّ، بل لا يجوز دخولُه فيه، لما قدّمتُ من استحالة أن يقال: إنّ اللغة هي التي أوجبت أن يُخْتصّ الفعل بالحيّ القادر دون الجماد، وما في ذلك من الفساد العظيم، فاعرفه فرقاً واضحاً، وبرهاناً قاطعاً. وهاهنا نكتة جامعةٌ، وهي أن المجاز في مقابلة الحقيقة، فما كان طريقاً في أحدِهما من لغة أو عقلٍ، فهو طريقٌ في الآخر، ولستَ تشكُّ في أنّ طريقَ كونِ الأسد حقيقةً في السبع، اللُّغةُ دون العقل، وإذا كانت اللغة طريقاً للحقيقة فيه، وجب أن تكون هي أيضاً الطريقَ في كونه مجازاً في المُشبَّه بالسَّبُع، إذا أنت أجْريت اسم الأسد عليه فقلت: رأيت أسداً، تريد رجلاً لا تميّزه عن الأسد في بسالته وإقدامه وبطشه، وكذلك إذا علمتَ أن طريق الحقيقة في إثبات الفعل للشيء هو العقل، فينبغي أن تعلم أنه أيضاً الطريقُ إلى المجاز فيه، فكما أن العقل هو الذي دلَّك حين قلت: فَعَلَ الحيُّ القادرُ، أنك لم تتجوّز، وأنك واضعٌ قَدَمك على مَحْضِ الحقيقة، كذلك ينبغي أن يكون هو الدالَّ والمقتضَى، إذا قلت: فَعَلَ الربيع، أنك قد تجوّزت وزُلْتَ عن الحقيقة فاعرفه. فإن قال قائل: كان سياق هذا الكلام وتقريرُه يقتضي أنّ طريقَ المجاز كلِّه العقلُ، وأنْ لا حظَّ للُّغة فيه، وذاك أنّا لا نُجري اسم الأسد على المشبَّه بالأسد، حتى ندَّعيَ له الأسدية، وحتى نُوهِم أنه حين أعطاك من البسالة والبأس والبطش، ما تجدُهُ عند الأَسد، صار كأنه واحدٌ من الأسود قد استبدلَ بصورته صورة الإنسان، وقد قدَّمت أنت فيما مضى ما بَيَّنَ أنك لا تتجوّز في إجراء اسم المشبَّه به على المشبَّه، حتى تُخيِّل إلى نفسك أنه هو بعينه فإذا كان الأمر كذلك فأنت في قولك: رأيتُ أسداً، متجوّزٌ من طريق المعقول، كما أنك كذلك في فعل الربيع، وإذا كان كذلك، عاد الحديثُ إلى أنّ المجاز فيهما جميعاً عقليٌّ، فكيفَ قسَّمته قِسمين لغويّ وعقلي. فالجواب أنّ هذا الذي زعمتَ - من أنك لا تُجري اسم المشبَّه به على المشبَّه حتى تدَّعيَ أنه قد صار من ذلك الجنس، نحو أن تجعل الرجل كأنه في حقيقة الأسد صحيح كما زعمت، لا يدفعه أحدٌ، كيف السبيل إلى دفعه، وعليه المعوَّل في كونه التشبيه على حدِّ المبالغة، وهو الفرق بين الاستعارة وبين التشبيه المُرْسَل؟ إلاّ أن هاهنا نكتةً أخرى قد أغفلتَها، وهي أنّ تجوُّزك هذا الذي طريقه العقْلُ، يُفضي بك إلى أن تُجري الاسم على شيء لم يوضع له في اللغة على كل حال، فتجُوزَ بالاسم على الجملة الشيءَ الذي وُضع له، فمن هاهنا جعلنا اللغة طريقاً فيه. فإن قلت: لا أُسلِّم أنه جرى على شيءٍ لم يوضع له في اللغة، لأنك إذا قلت: لا تُجريه على الرجل حتى تدّعيَ له أنه في معنى الأسد، لم تكن قد أجريته على ما لم يوضع له، وإنما كان يكون جارياً على غير ما وُضع له، أَنْ لو كنت أجريته على شيءٍ لتُفيدَ به معنًى غير الأسدية، وذلك ما لا يُعقَل، لأنك لا تُفيد بالأسد في التشبيه أنه رجلٌ مثلاً، أو عاقل، أو على وصفٍ لم يوضع هذا الاسم للدلالة عليه ألبتة. قيل لك: قُصارَى حديثك هذا أنّا أجرينا اسم الأسد على الرجل المشبَّه بالأسد على طريق التأويل والتخييل، أفليس على كل حال قد أجريناه على ما ليس بأسد على الحقيقة؟ وألسنا قد جعلنا له مذهباً لم يكن له في أصل الوضع.َّر أن يكون هذا السَّبع بهذا الاسم أوْلَى من غيره، فأمّا استحقاق الحيّ القادر أن يُثبَت الفعل له واختصاصه بهذا الإثبات دون كل شيء سواه، فبفرض العقل ونصِّهِ لا باللغة، فقد نقلتَ الأسد عن شيء هو أصل فيه باللغة لا بالعقل، وأمَّا فَعَلَ فلم تنقله عن الموضع الذي وضعته اللغة فيه، لأنه كما مضى، موضوع لإثبات الفعل للشيء في زمان ماضٍ، وهو في قولك: فَعَلَ الربيع باقٍ على هذه الحقيقة غير زائلٍ عنها، ولن يستحقَّ اللفظُ الوصفَ بأنه مجازٌ، حتى يجريَ على شيء لم يوضع له في الأصل، وإثبات الفعل لغير مستحقِّه، ولما ليس بفاعل على الحقيقة، لا يُخرِج فَعَلَ عن أصله، ولا يجعله جارياً على شيء لم يوضع له، لأن الذي وُضعَ له فَعَلَ هو إثبات الفعل للشيء فقط، فأمّا وَصْف ذلك الشيء الذي يقع هذا الإثبات له، فخارجٌ عن دلالته، وغير داخلٍ في الموضع اللغويّ، بل لا يجوز دخولُه فيه، لما قدّمتُ من استحالة أن يقال: إنّ اللغة هي التي أوجبت أن يُخْتصّ الفعل بالحيّ القادر دون الجماد، وما في ذلك من الفساد العظيم، فاعرفه فرقاً واضحاً، وبرهاناً قاطعاً. وهاهنا نكتة جامعةٌ، وهي أن المجاز في مقابلة الحقيقة، فما كان طريقاً في أحدِهما من لغة أو عقلٍ، فهو طريقٌ في الآخر، ولستَ تشكُّ في أنّ طريقَ كونِ الأسد حقيقةً في السبع، اللُّغةُ دون العقل، وإذا كانت اللغة طريقاً للحقيقة فيه، وجب أن تكون هي أيضاً الطريقَ في كونه مجازاً في المُشبَّه بالسَّبُع، إذا أنت أجْريت اسم الأسد عليه فقلت: رأيت أسداً، تريد رجلاً لا تميّزه عن الأسد في بسالته وإقدامه وبطشه، وكذلك إذا علمتَ أن طريق الحقيقة في إثبات الفعل للشيء هو العقل، فينبغي أن تعلم أنه أيضاً الطريقُ إلى المجاز فيه، فكما أن العقل هو الذي دلَّك حين قلت: فَعَلَ الحيُّ القادرُ، أنك لم تتجوّز، وأنك واضعٌ قَدَمك على مَحْضِ الحقيقة، كذلك ينبغي أن يكون هو الدالَّ والمقتضَى، إذا قلت: فَعَلَ الربيع، أنك قد تجوّزت وزُلْتَ عن الحقيقة فاعرفه. فإن قال قائل: كان سياق هذا الكلام وتقريرُه يقتضي أنّ طريقَ المجاز كلِّه العقلُ، وأنْ لا حظَّ للُّغة فيه، وذاك أنّا لا نُجري اسم الأسد على المشبَّه بالأسد، حتى ندَّعيَ له الأسدية، وحتى نُوهِم أنه حين أعطاك من البسالة والبأس والبطش، ما تجدُهُ عند الأَسد، صار كأنه واحدٌ من الأسود قد استبدلَ بصورته صورة الإنسان، وقد قدَّمت أنت فيما مضى ما بَيَّنَ أنك لا تتجوّز في إجراء اسم المشبَّه به على المشبَّه، حتى تُخيِّل إلى نفسك أنه هو بعينه فإذا كان الأمر كذلك فأنت في قولك: رأيتُ أسداً، متجوّزٌ من طريق المعقول، كما أنك كذلك في فعل الربيع، وإذا كان كذلك، عاد الحديثُ إلى أنّ المجاز فيهما جميعاً عقليٌّ، فكيفَ قسَّمته قِسمين لغويّ وعقلي. فالجواب أنّ هذا الذي زعمتَ - من أنك لا تُجري اسم المشبَّه به على المشبَّه حتى تدَّعيَ أنه قد صار من ذلك الجنس، نحو أن تجعل الرجل كأنه في حقيقة الأسد صحيح كما زعمت، لا يدفعه أحدٌ، كيف السبيل إلى دفعه، وعليه المعوَّل في كونه التشبيه على حدِّ المبالغة، وهو الفرق بين الاستعارة وبين التشبيه المُرْسَل؟ إلاّ أن هاهنا نكتةً أخرى قد أغفلتَها، وهي أنّ تجوُّزك هذا الذي طريقه العقْلُ، يُفضي بك إلى أن تُجري الاسم على شيء لم يوضع له في اللغة على كل حال، فتجُوزَ بالاسم على الجملة الشيءَ الذي وُضع له، فمن هاهنا جعلنا اللغة طريقاً فيه. فإن قلت: لا أُسلِّم أنه جرى على شيءٍ لم يوضع له في اللغة، لأنك إذا قلت: لا تُجريه على الرجل حتى تدّعيَ له أنه في معنى الأسد، لم تكن قد أجريته على ما لم يوضع له، وإنما كان يكون جارياً على غير ما وُضع له، أَنْ لو كنت أجريته على شيءٍ لتُفيدَ به معنًى غير الأسدية، وذلك ما لا يُعقَل، لأنك لا تُفيد بالأسد في التشبيه أنه رجلٌ مثلاً، أو عاقل، أو على وصفٍ لم يوضع هذا الاسم للدلالة عليه ألبتة. قيل لك: قُصارَى حديثك هذا أنّا أجرينا اسم الأسد على الرجل المشبَّه بالأسد على طريق التأويل والتخييل، أفليس على كل حال قد أجريناه على ما ليس بأسد على الحقيقة؟ وألسنا قد جعلنا له مذهباً لم يكن له في أصل الوضع.
وهَبْنا قد ادَّعينا للرجل الأسدية حتى استحق بذلك أن نُجْريَ عليه اسم الأسد، أترانا نتجاوز في هذه الدعوى حديثَ الشجاعة، حتى ندّعي للرجل صورةَ الأسد وهيئتَه وعَبَالة عنقه ومَخالبَه، وسائرَ أوصافه الظاهرة البادية للعيون ولئن كانت الشجاعة من أخصِّ أوصاف الأسد وأمكنِها، فإن اللغة لم تضع الاسم لها وَحْدَها، بل لها في مثل تلك الجُثَّة وهاتيك الصورة والهيئة وتلك الأنيابِ والمخالبِ، إلى سائر ما يُعلَم من الصورة الخاصَّة في جوارحه كلِّها، ولو كانت وضعتْه لتلك الشجاعة التي تعرفُها وحدها، لكان صفةً لا اسماً، ولكان كل شيءٍ يُفضِي في شجاعته إلى ذلك الحدّ مستحقّاً للاسم استحقاقاً حقيقيّاً، لا على طريق التشبيه والتأويل، وإذا كان كذلك فإنّا وإنْ كنَّا لم ندلَّ به على معنًى لم يتضمّنه اسمُ الأسد في أصل وضْعه، فقد سلبناه بعضَ ما وضع له، وجعلناه للمعاني التي هي باطنةٌ في الأسد وغريزة وطبعٌ به وخُلُقٌ، مجرَّدةً عن المعاني الظاهرة التي هي جُثَّة وهيئةٌ وخلْقٌ، وفي ذلك كفايةٌ في إزالتِه عن أصلٍ وَقع له في اللغة، ونقلِه عن حدِّ جَرْيهِ فيه إلى حدٍّ آخر مخالفٍ له. وليس في فَعَلَ إذا تُجُوِّز فيه شيءٌ من ذلك، لأنّا لم نسلُبْه لا بالتأويل ولا غير التأويل شيئاً وضعتْهُ اللغة له، لأنه كما ذكرتُ غيرَ مرّةٍ: لإثبات الفعل للشيء من غير أن ىُتَعَرَّض لذلك الشيء ما هو، أو هو مستحقٌّ لأن يُثَبت له الفعل أو غيرُ مستحق، وإذا كان كذلك، كان الذي أرادت اللغة به موجوداً فيه ثابتاً له في قولك: فَعَلَ الربيع، ثبوتَه إذا قلت: فعل الحيُّ القادر، لم يتغيّر له صورة، ولم ينقص منه شيء، ولم يَزُل عن حدٍّ إلى حدّ فاعرفه. فإن قلتَ: قد عَلِمنا أنَّ طريق المجاز ينقسم إلى ما ذكرتَ من اللغة والمعقول، وأنَّ فَعَلَ في نحو: فعل الربيع، مما طريقه المعقول، وأنّ نحو: الأسَد إذا قُصد به التشبيه، واستعير لغير السبع، طريقُ مجازه اللغة، وبقي أن نعلَم لم خصَّصتَ المجاز - إذا كان طريقه العقل - بأن توصف به الجملة من الكلام دون الكلمة الواحدة، وهلاّ جوّزتَ أن يكون فَعَلَ على الانفراد موصوفاً به. فإنّ سببَ ذلك أن المعنى الذي له وُضع فَعَلَ لا يُتصوَّر الحكم عليه بمجاز أو حقيقة حتى يُسْنَد إلى الاسم، وهكذا كل مثال من أمثلة الفعل، لأنه موضوع لإثبات الفعل للشيءِ، فما لم نبيّن ذلك الشيء الذي نُثبته له ونذكره، لم يُعقَل أنّ الإثبات واقعٌ موقعَه الذي نجده مرسوماً به في صحف العقول، أمْ قد زال عنه وجازه إلى غيره. هذا وقولك: هلاَّ جوَّزت أن يكون فَعَلَ على الانفراد موصوفاً به، محالٌ، بعد أن نثبت أنْ لا مجازَ في دلالة اللفظ، وإنما المجاز في أمر خارج عنه، فإن قلت أردتُ هلاّ جوَّزت أن يُنسَب المجاز إلى معناه وحده، وهو إثبات الفعل فيقال: هو إثبات فعلٍ على سبيل المجاز. فإنَّ ذلك لا يتأَتَّى أيضاً إلا بعد ذكر الفاعل، لأن المجاز أو الحقيقة، إنما يَظْهر ويُتصوَّر من المثبَت والمثبَت له والإثبات، وإثبات الفعل من غير أن يقيَّد بما وقع الإثبات له، لا يصحّ الحكم عليه بمجاز أو حقيقة، فلا يمكنك أن تقول: إثبات الفعل مجاز أو حقيقة هكذا مُرسلاً، إنما تقول: إثبات الفعل للربيع مجازٌ، وإثباته للحيّ القادر حقيقة. وإذا كان الأمر كذلك علمت أنْ لا سبيل إلى الحكم بأنّ هاهنا مجازاً أو حقيقةً من طريق العقل، إلا في جملة من الكلام، وكيف يُتصوَّر خلافُ ذلك؟ ووِزان الحقيقة والمجاز العقليين، وِزَانُ الصدق والكذب، فكما يستحيل وصفُ الكَلِم المفردة بالصدق والكذب، وأنْ يُجْرَى ذلك في معانيها مفرَّقةً غير مؤلَّفةً، فيقال: رجل - على الانفراد - كذبٌ أو صدقٌ، كذلك يستحيل أن يكون هاهنا حكم بالمجاز أو الحقيقة، وأنت تنحو نحو العقل إلا في الجملة المفيدة، فاعرفه أصلاً كبيراً واللَّه الموفقُ للصواب، والمسؤولُ أن يعصم من الزَّلَل بمنّه وفضله. فصل في الحذف والزيادة وهل هما من المجاز أم لا
واعلم أن الكلمة كما توصف بالمجاز، لنقلك لها عن معناها، كما مضى، فقد توصف به لنقلها عن حُكمٍ كان لها، إلى حُكْمٍ ليس هو بحقيقة فيها، ومثالُ ذلك أن المضاف إليه يكتسي إعرابَ المضافِ في نحو: " وَاسْئَلِ القَرْيَةَ " " يوسف: 82 " ، والأصل: واسئل أهل القرية، فالحكم الذي يجب للقرية في الأصل وعلى الحقيقة هو الجرُّ، والنصبُ فيها مجازٌ، وهكذا قولهم: بنو فلانٍ تَطَؤُهم الطريقُ، يريدون أهلَ الطريق، الرَّفع في الطريق مجاز، لأنه منقول إليه عن المضاف المحذوف الذي هو الأهل، والذي يستحقّه في أصله هو الجرُّ، ولا ينبغي أن يقال: إن وجهَ المجاز في هذا الحذفُ، فإن الحذفَ إذا تجرَّد عن تغيير حُكْم من أحكام ما بقي بعد الحذفِ لم يُسَمَّ مجازاً، ألا ترى أنك تقول: زيدٌ منطلق وعمرٌو، فتحذف الخبر، ثم لا توصف جملة الكلام من أجل ذلك بأنه مجازٌ؟ وذلك لأنه لم يُؤَدِّ إلى تغيير حكم فيما بقي من الكلام، ويزيدُه تقريراً أن المجاز إذا كان معناه: أن تجوزَ بالشيء موضعَه وأصلَه، فالحذفُ بمجرَّده لا يستحقّ الوصف به، لأنَّ تَرْك الذكر وإسقاطَ الكلمة من الكلام، لا يكون نقلاً لها عن أصلها، إنما يُتصوَّر النقل فيما دخل تحت النطق، وإذا امتنع أن يوصف المحذوفُ بالمجاز، بقي القولُ فيما لم يحذف، وما لم يُحْذَف ودخل تحت الذكر، لا يزول عن أصله ومكانه حتى يُغيَّر حُكمٌ من أحكامه أو يغيَّر عن مَعَانيه، فأما وهو على حاله، والمحذوفُ مذكورٌ، فتوهُّمُ ذلك فيه من أبعد المحال فاعرفه. وإذا صحَّ امتناعُ أن يكون مجرَّدُ الحذفِ مجازاً، أو تحِقَّ صفةُ باقي الكلام بالمجاز، من أجل حذفٍ كان على الإطلاق، دون أن يحدُث هناك بسبب ذلك الحذف تغيُّرُ حكمٍ على وجهٍ من الوجوه علمتَ منه أنّ الزيادة في هذه القضية كالحذف، فلا يجوزُ أن يقال إن زيادة ما في نحو: " فَبِمَا رَحْمَةٍ " " آل عمران: 951 " مجازٌ، أو أن جملة الكلام تصير مجازاً من أجل زيادته فيه، وذلك أنّ حقيقة الزيادة في الكلمة أنْ تَعْرَى من معناهَا، وتذكرَ ولا فائدة لها سوى الصّلة، ويكون سقوطُها وثبوتُها سواءً، ومحالٌ أن يكون ذلك مجازاً، لأن المجاز أن يُراد بالكلمة غير ما وُضِعت له في الأصل أو يُزَادَ فيه أو يُوهَم شيءٌ ليس من شأنه، كإيهامك بظاهر النَّصب في القرية أن السؤال واقعٌ عليها، والزائد الذي سقوطه كثبوته لا يُتصوَّر فيه ذلك. فأمَا غير الزائد من أجزاء الكلام الذي زِيدَ فيه، فيجب أن يُنظَر فيه، فإن حدَثَ هناك بسبب ذلك الزائِد حكمٌ تزول به الكلمة عن أصلها، جاز حينئذٍ أن يُوصَف ذلك الحكم، أو ما وَقَع فيه، بأنه مجاز، كقولك في نحو قوله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " " الشورى: 11 " إن الجرّ في المِثْل مجازٌ، لأن أصله النصب، والجرُّ حكمٌ عَرَض من أجل زيادة الكاف، ولو كانوا إذ جعلوا الكاف مزيدة لم يُعملوها، لما كان لحديث المجاز سبيلٌ على هذا الكلام، ويزيده وضوحاً أن الزيادة على الإطلاق لو كانت تستحق الوصفَ بأنها مجاز، لكان ينبغي أن يكون كل ما ليس بمزيد من الكلم مستحقّاً الوصف بأنه حقيقة، حتى يكون الأسد في قولك: رأيت أسداً وأنت تريد رجلاً حقيقةً. فإن قلت: المجاز على أقسام، والزيادة من أحدها، قيل هذا لك إذَا حدَّدتَ المجاز بحدٍّ تدخل الزيادة فيه، ولا سبيلَ لك إلى ذلك، لأن قولَنا: المجاز، يفيد أن تجوز بالكلمة موضعَها في أصل الوضع، وتنقلها عن دِلالة إلى دِلالة، أو ما قَارَب ذلك، وعلى الجملة فإنه لا يُعقَل من المجاز أن تَسْلُب الكلمة دِلالتَها، ثم لا تُعطيها دِلالةً، وأن تُخلِيَها من أن يُرَاد بها شيء على وجهٍ من الوجوه، ووصفُ اللفظة بالزيادة، يفيد أن لا يُرَاد بها معنًى، وأن تُجعَل كأن لم يكن لها دلالة قطُّ، فإن قلت: أَو ليس يُقال إن الكلمة لا تَعْرَى من فائدة مّا، ولا تصير لَغْواً على الإطلاق، حتى قالوا إنّ ما في نحو فبما رحمة من اللَّه، تفيد التوكيد. فأنا أقول إنَّ كونَ مَا تأكيداً، نقلٌ لها عن أصلها ومجازٌ فيها، وكذلك أقول: إن كون الباء المزيدة في ليس زيد بخارج، لتأكيدِ النفي، مجازٌ في الكلمة، لأن أصلها أن تكون للإلصاق فإنّ ذلك على بُعده لا يقدح فيما أردتُ تصحيحَه، لأنه لا يُتصوَّر أن تصفَ الكلمة من حيث جُعلت زائدة بأنها مجازٌ، ومتى ادّعينا لها شيئاً من
المعنى، فإنَّا نجعلها من تلك الجهة غير مزيدة، ولذلك يقول الشيخ أبو علي في الكلمة إذا كانت تزولُ عن أصلها من وجه ولا تزول من آخر مُعْتدٌّ بها من وجهٍ، غيرُ مُعْتدٍّ بها من وجهٍ، كما قال في اللاّم من قولهم: لا أبا لِزَيْدٍ، وجعلها من حيث مَنعت أن يتعرَّف الأبُبزيدٍ، معتدّاً بها من حيث عارضها لام الفعل من الأب التي لا تعود إلا في الإضافة نحو: أبو زيد وأبا زيد، غير معتدٍّ بها، وفي حكم المُقحَمة الزائدة، وكذلك توصف لا في قولنا مررت برجلٍ لا طويلٍ ولا قصيرٍ، بأنها مزيدةٌ ولكن على هذا الحدّ، فيقال: هي مزيدة غيرُ مُعْتدٍّ بها من حيث الإعراب، ومعتدٌّ بها من حيث أوجبت نفي الطول والقِصَر عن الرجل، ولولاها لكانا ثابتين له. وتطلق الزيادة على لا في نحو قوله تعالى: " لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أن لا يَقْدِرُونَ " " الحديد: 29 " ، لأنها لا تفيد النفي فيما دخلت عليه، ولا يستقيم المعنى إلاّ على إسقاطها، ثم إنْ قلنا إنّ لا هذه المزيدةَ تُفيد تأكيد النفي الذي يجيء من بعدُ في قوله: " أن لاَ يَقْدِرُونَ " ، وتؤذن به، فإنّا نجعلها من حيث أفادت هذا التأكيد غيرَ مزيدة، وإنما نجعلها مزيدة من حيث لم تُفد النفي الصريح فيما دخلت عليه، كما أفادته في المسألة، وإذا ثبتَ أنَّ وصفَ الكلمة بالزيادة، نقيضُ وصفها بالإفادة، علمت أن الزيادة، من حيث هي زيادة، لا توجب الوصف بالمجاز، فإن قلت: تكون سبباً لنقل الكلمة عن معنًى هو أصلٌ فيها إلى معنًى ليس بأصلٍ كدتَ تقول قولاً يجوز الإصغاء إليه، وذلك، إن صَحّ، نظير ما قدّمتُ من أن الحذف أو الزيادة قد تكون سبباً لحدوث حكم في الكلمة تدخل من أجله في المجاز، كنصب القرية في الآية وجرّ المِثْل في الأخرى فاعرفه. واعلم أن من أصول هذا الباب: أن مِن حقّ المحذوف أن المزيد أن يُنسَب إلى جُملة الكلام، لا إلى الكلمة المجاورة له، فأنت تقول إذا سُئلت عن: اسأل القرية: في الكلام حذفٌ، والأصل: أهل القرية، ثم حُذف الأهل، تعني حُذف من بين الكلام، وكذلك تقول: الكافُ زائدة في الكلام والأصلُ: ليس مثلَه شيءٌ، ولا تقول هي زائدة في مثل، إذ لو جاز ذلك، لجاز أن يقال إنّ ما في فبما رحمة، مزيدةٌ في الرحمة، أو في الباء وأن لا مزيدة في يعلم، وذلك بَيِّنُ الفساد، لأن هذه العبارة إنما تصلح حيث يُرَاد أن حرفاً زيد في صيغة اسم أو فعل، على أن لا يكون لذلك الحرف على الانفراد معنًَى، ولا تعُدّه وحده كلمةً، كقولك: زيدت الياء للتصغير في رُجيل، والتاء للتأنيث في ضَارِبَة، ولو جاز غيرُ ذلك، لجاز أن يكون خبر المبتدأ إذْ حُذف في نحو: زيد منطلق وعمرو، محذوفاً من المبتدأ نفسه، على حدِّ حذف اللام من يَدٍ ودَمٍ، وذلك ما لا يقوله عاقل، فنحن إذا قلنا إن الكاف مزيدة في مثل، فإنما نعني أنها لمّا زيدت في الجملة وُضعت في هذا الموضع منها، والأَصحُّ في العبارة أن يقال: الكاف في مثل مزيدة، يعني الكاف الكائنة في مثل مزيدةٌ، كما تقول الكاف التي تراها في مثل مزيدةٌ وكذلك تقول: حُذِفَ المضافُ من الكلام، ولا تقول: حذف المضاف من المضاف إليه، وهذا أوضح من أن يخفى، ولكنيِّ استقصيتُه، لأني رأيت في بعض العبارات المستعملة في المجاز والحقيقة ما يُوهم ذلك فاعرفه. ومما يجب ضبطه هنا أيضاً: أن الكلام إذا امتنعَ حمله على ظاهره حتى يدعو إلى تقديرِ حذفٍ، أو إسقاطِ مذكورٍ، كان على وجهين: أحدهما أن يكون امتناع تركه على ظاهره، لأمرٍ يرجع إلى غرض المتكلم، ومثاله الآيتان المتقلدم تلاوتهما، ألا ترى أنك لو رأيت اسأل القرية في غير التنزيل، لم تقطع بأن هاهنا محذوفاً، لجواز أن يكون كلام رجل مرَّ بقرية قد خَرِبت وباد أهلها، فأَراد أن يقول لصاحبه واعظاً ومذكّراً، أو لنفسه مُتَّعظاً ومُعْتبراً اسأل القرية عن أهلها، وقلْ لها ما صنعوا، على حد قولهم: سَلِ الأرض مَن شَقَّ أنْهارَك، وغَرَس أشجارك، وجَنَى ثمارك، فإنها إن لم تُجِبْك حِواراً، أجابتْك اعتباراً وكذلك: إن سمعت الرجل يقول: ليس كمثل زيدٍ أحدٌ، لم تقطع بزي
هذا كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته الفصل الأخير من كتاب أسرار البلاغة