موضوع: قراءة نقدية فى ديوان حكاية منغولية السبت نوفمبر 03, 2012 9:29 pm
ما بين وجع الذات ورجفتها الرهيبة، وبين الحنين للوطن، يطالعنا ديوان حكاية منغولية للكاتبة العراقية / وفاء عبد الرزًاق، فماذا عن تلك الحكاية التى عنونتها بالمنغولية؟
وهل تقصد حكايات المغول القديمة؟ أم أن هناك مغولاً جدد تقصدهم؟ ان العنوان بداية يشى بتاريخ للحزن كم عانت منه الشعوب العربية فهل نجد العنوان يدلل الى تلك الحكايات، أم تراها تقص علينا حكاية استعمار الجديد؟ انها حكاية تتوالد عنها حكايات وهموم وأحزان امرأة تبحث عن هوية ضائعة وسط أمواج ثلجية توشًى جبينها، فتعود الى الذات لتغوص فى كمائنها لتسبر أغوار وطن يخنق الآهة على شفتيها فتصرخ بصمت آسن، وشجن عميق : على وجه الرِّيح خانَني الكلام يا هذا الذي كُلَّما أعطيتُه ميثاقي أعطاني الخراب لم يعُد للعمر مكْرُهُ كي تضيقَ الأرضُ تحت قدمي انها قصة امرأة غادرت الدفء الى غابات الثلج والصقيع، استمرأت الجراح لتتحرر من الوهن والأوجاع تقول : .هي أوَّلُ احتراقٍ، وآخرُ الكرْم لا مياهَ إلاَّ زرقتها ولبنًا من شجر هي أخضرُ طارده القيظُ وأبيضُ صلاَّه المَغيب لا جدارَ سواها ولا مطرَ سوى سقفٍ حزينٍ تهبط ُعليها ليلاً بقشَّةٍ أتلفَها عصفور بحريقٍ شبَّ بسرِّيَّةٍ وتآكلَ ببحرين نجلاوين ونسيانٍ عميق انها تبحث عن خارطة تضمد عليها جراحها، وحين تغيب الأوطان ليس من سبيل الا التخيل، ومع هذا نراها تتعلق بأمل لا يجىء تقول : رسمت نهريها ضفيرتان هما من جبال الحداد الألف ومن وعاء لا يضيق الا للجرح يزم شفتيه كقبلة من وجع تركل جثمان بؤسها وتصرخ طالبة خارطة ليس فيها موطن من خشب انها تبحث عن الأنثى الضائعة عن الطفولة التى ربما ستجدها فى رسالة لابنها (خالد) ذلك الأمل الذى تعول اليه وتهرب منه اليه، تحرق نفسها وتضجر من ذاتها لتبحث عن هوية تقول : ا الدُّنيا بيديكَ تفاحة لا وعلى الأرض ملاكان أشبارهما بوسع الوطن فاصمتْ أصم تقضمْ خطيئةً نالَت منكَ أخرج إلى الكون أوسِعْه ضربًا أي قلبيَ الظَّاهر الباطن خُذْ ولاّعتي واحرق ما بين فخذَيها تلك العمياء التي ضجرَتْ من ذاتها أعطِها اسمَها اقدحْ شرارتها وتدلَّ بقلادتها كلُّ الينابيع تكسَّرَت على حُلمتَيها م ت
إنَّه اللهُ تجلَّى في امرأة.
انها اذن تحلم وتتجسد الحلم لتصنع وطناً ولو من خشب أو ورق، تغوص فى ذاتها وتعبث بأعضائها ليس من أجل نزوة عابرة، أو استجابة لجسد عطشان لسقيا بعدت بعيداً جداً، ولكن من أجل رحلة بحث عن الذات بين نهر التايمز وأدجاء لندن،/ تتغرب وفى ذاتها غربة داخلية فتتصارع الغربتان داخل الجسد المقروح فلا تجد سوى جسدها لتشكو اليه. انها امرأة أقضت الوحدة مضجعها فغدت كعاشقة فى محراب، أو فى حانة، تشرب حميا الردى من كأس السغب المرير، تبحث عن دفء يمنحها حياة لأنثى أقضت مضجعها أحزان متعاقبة، فنراها تبحث فى أجندة العالم عن خلاص ينتزعها من تلك العواصف التى تقصف بها وتريد أن تمحى كينونتها كامرأة تبحث عن الحب والجمال، والعيش بين ثنايا صدر رجل يهدهد جوعها، ويكفكف دموعها ويؤنس الوحشة داخلها، تقول :ا يا من أطفأَ عيونَ الأبواق وقرأَ جوهرتي هاتِ سترتَك الزَّرقاء إنَّها الرِّيحُ فزَرِّرْ قلبي كي لا يسمعَ غيرَك الوثبةُ الكسلانة ليست ماءً يغسلُ عُريَ الوجه والثَّوبُ الرَّمليُّ ليس بُشتك يا... يا انتظاري كلَّه يا دقائقَ جائعةً وهمهمةَ التَّداعي رتِّلْ باسمِكَ إنَّها القيامةُ الزَّاحفةُ بقوافِلِها إنَّها أنتَ وأنا في قطوفنا الدَّانية مُدَّ أصابعَك بما استطعتَ من حضور إنَّها سيمفونيَّتكَ الأخيرة فجرِّدْني من ظلٍّ مخادعٍ أنبِتْني أرضَكَ بالقدر الذي يكفيكَ مِنِّي وانتزِعْ كُلَّ مَن لا يَعنيك كُلَّ مَن خَربشَ على ثوبكَ ولم يرسم هيأتَكَ كلَّ مَن جمَّل الكلماتِ لِيصِلَك روحكَ على موجاتٍ خضر تشُدُّ أراجيحَها لزنابقَ لامسَتكَ واتَّكأت تشجِّرُ ما سيُنشدُه الله.
انها تبحث غن لحظة دافئة بين أحضان رجل تشم فيه نكهة الوطن الذى اغتالها وسرق منها ضفيرة الحلم، تبحث عن وجودها كامرأة بين ركام لذكريات مرت وكانت كالكابوس انها حكاية وطن نهشت كرامته، وذبحت براءته فغدا مدنساً بجرح عميق، جرح لم تعرف مداه تلك القابلة التى تلقت ذلك الطفل البرىء، ولو علمت أنه طفل غريب عن ماء الوطن ربما ما استقبلته، انه طفل الخيانة، طفل الجراح طفل يحمل بين طياته وطناً مذبوحاً ، انها حكاية منغولية لامرأة حملت من مغتصب، ولكن ما ذنب الطفولة البريئة انها قصة احتلال غاصب يسلب الارادة وعرق الأجساد، ويستبيح الأجساد البريئة ليمارس فيها رغباته، تقول :ا
حكايةٌ مُنغوليَّة في تلكَ اللَّيلة حين كانتِ المدينةُ مجرَّدَ شيءٍ على عربات قطار وفي قاطرة نصفُها خمرٌ، ونصفٌ رُعاش امرأةٌ نهبَتْها الصفـّارات هفّ... ولجمَتْ حسناءُ صُراخَ سجائر الجدران """"""""""""" وأطفأتها حتَّى آخر حائط علقَ دخانُ الغرفة بأصابعها هلعًا ينفثُ """"""""" واستسلمتْ لحزنٍ شارد مثل مركبٍ ورقيّ بإطار التَّجديف سدَّتْ تنهـُّدَ الدُّعاء بلجام المخاض طهَتِ السُّقوفَ جيِّدًا وتبَّلَتها بظلمة عادت للتَّو من حديقة الجيران. في همسات الثَّلج لأبوابٍ تدخِّنُ امرأة وقتَ صارَ الطَّابقُ الأسفل سقفًا محروقًا والأرضُ عروقاً زَرِقَ بياضُها أمحلَ المخاض.. جاءت حسناءُ تستدعي بعضَ مقاطعها للصِّياغة وطفلٌ منغوليّ يلعبُ بصفَّارة هف... لقد ارتأينا أن نبدأ القراءة الجمالية بتخالف يكسر حدة النقد الأكاديمى، لنعرًج عبر ذلك الى علاقة الذات بالوطن، دون التطرق الى التقنيات الأسلوبية ووصف الصور الجمالية الرائعة التى يعج بها هذا الديوان ومفاد وجهتنا أمران :ا أولا : غرائبية الأسلوب وجماليته ودهشته أيضاً ثانياً : المفارقة فى كسر التابو النقدى والتطرق للشعرية المتدفقة على طزاجتها دون تدخل منا فى فك شفرات قد لا تشى بتضمينات جمالية - من جانبنا -، لذا فقد ركزنا على الأثر النفسى لما تحدثه الفقرات الشعرية فى استجلاء الجو العام، أو فيما يسمى بجغرافيا النص، وتلك لعمرى قصدية ارتأيتها لتقريب الصورة الجديدة - فيما أحسب - على الذهنية العربية أو المفارقة التى يمكن أن تحدثها الأسلوبية فى صدمة القارىء لأول وهلة، ومع هذا ترانا قد شرعنا الى النقد التطبيقى واضعين نصب أعيننا بأن النص يطرح منهجه، وأن القراءة الجمالية يمكن أن تكون مدخلاً الى فضاء النص وموضوعه والى استجلاء الشعرية بداخله ان هذا الديوان يضج بعدة مستويات أسلوبية منها استخدام المفارقة والصور الصادمة - الدهشة - ومن ذلك قولها : كل الينابيع تكسرت على حلمتيها وعلى الأرض ملاكان أشبارهما بوسع الوطن فاصمت اصمت انه الله تجلى فى امرأة وهنا المفارقة فى (انه الله تجلى فى امرأة) فهى تنقلنا من جو نفسى الى جو مغاير نلمح فيه الدهشة الصادمة والممتعة، كما أنها تحيلنا الى ذواتنا فى أسلوب الأمر (اصمت) وتكرار هذا الفعل له دلالاته النفسية لتوقع ما سوف تقوله فتجد أنها خالفت الجو النفسى العام للقصيدة لتحيلنا الى فعل التجلى الذى ظلل هذه المرأة وهذا لعمرى أسلوب التفات رائع ويدلل الى مهارة فى التقاط الصورة وما تحدثها من أثر نفسى لحظة انطفاء القصيدة، أو نهايتها ويضج الديوان بالعديد من المفارقات التى لا مجال لاحصائها هنا اذ أننا معنيين بالقراءة الجمالية والتدليل الى الجمال لحث القارىء لقراءة الديوان دون تدخل منا الا فى التهيئة للدخول الى عالم النص كما أسلفنا ثانيا :تستخدم الكاتبة تقنية الثنائية للحوار بين ال (هو) وال (هى) وهى تقنية تدلل الى براعة وحذق لدى الشاعرة، فهى تخلق حوارية أو دراما نجد فيها تكثفاً وتنويعاً فى الأسلوب، كما أن بها وصفا للذات ومقاربتها بالذات المخاطبة لتشارك القارىء بصفة غير مباشرة للتعاطف مع ال هى أمام ال هو الذى لا يشعر بها، كما أنها تختزل الوصف وتكثفه فى جمل دالة لتعبر عما يجيش بخاطرها ومن ذلك قولها : هوَ... استعانَ بقميصهِ وابتسم لمظلاَّتٍ سود هيَ... بقيت مبللةَّ هوَ... غزلَ المائلَ وغاب هيَ... باقةُ صباحٍ من أجل اللَّيل هوَ... تركَ اسمه في شاي الصَّباح هيَ... أُصيبت بداءِ السكر هوَ... قميصٌ وحشيّ لا يعرفُ كيفَ يلبسها هيَ... روحُ فراشة في رقصتها الإلهية استعصت على قميص هوَ... رسم رمانة هيَ... رسمت على الماء سلَّة أطفال.
ولعل هذه التقنية قديمة الاستخدام الا أنها تستخدمها كأسلوب للكتابة عبر النوعية لخلق حوارية ربما - من جانبها - للافضاء بما تعتصره من أحاسيس دافئة ، ولربما لتعرية الذات أما الآخر الذى قد يجنح لنداء الروح فتلتقى الارادة الغائبة، أو التى تبحث عنها وتتشهاها
ثالثاً : تراوح الكاتبة فى ديوانها بين القصائد الطويلة المعروفة عن قصيدة النثر، وبين استخدامها للقصائد القصيرة جداً (قصائد الابيجرام) وهذا يشى بخبرة ودربة عميقة للكتابة، ومع أن الكاتبة - فيما أحسب - لا تفعل ذلك بقصدية ودليلى الى ذلك ترتيب القصائد العفوى والمتناغم أيضاً، والذى يدلل الى الحالة النفسية، أو الجو النفسى للديوان بصفة عامة ومع أن الشاعرة قد قد قسمت الديوان الى قصائد عديدة الا أننى أحسب أن الديوان قصيدة واحدة طويلة تتحدث عن العلاقة بين الذات والوطن وهذا لعمرى حذق وبراعة لم أجدها عند كثيرات من شاعرات هذا الجيل ان الديوان يحتاج منا الى أكثر من قراءة، وتجىء القراءة الجمالية - كما أحسب - قراءة (بانورامية) لاستجلاء موضوع الشعرية فى النصوص، أى هى مقدمة أو مدخل لقراءة العمل الأدبى، ويبقى الديوان هو الشىء الحقيق بالقراءة والتحليل، وهو الذى يشى بجمالياته ومفارقاته وأسلوبيته أيضاً ولنا أن نقول فى النهاية : اننا أمام شاعرة تقبض بكفيها الحروف لتشكل يوتوبيا شعرية تستمد موسيقاها من آهات القلب، ويبقى الشعر عصياً علينا أما ما تدبجه بروعها فليس عصياً على الشعر، اذ تمسك بصهوة الجواد وتلجم السرج لينطلق جواد الشعر وحوله فراشات النور فى حديقة العالم، ومع هذا نراها تنشد الأمل، وتستعذب الألم، وتنطق بالشجن فينطلق عصفور الشعر دافئاً وسط أدغال الثلوج المنهمرة على تهر التايمز الممتد والهادر، فنراها بمعطفها تصيد سمكة لتطعم العصفور المزقزق بقلبها الجريح الذىيسع العالم الممتد منقول للافادة من مقالة بقلم: حاتم عبدالهادى السيد عضو اتحاد كتاب مصر