موضوع: قراءة نقدية فى ديوان لست وحيداً يا وطنى السبت نوفمبر 03, 2012 10:06 pm
مابين عبق الذكرى والاغتراب ، وبين عشق الوطن وقدس المدائن ، ودروب بابل ، ومأذن يثرب .. بين النخيل والوحدة ، والدمار والجحيم وصوت المشيئة الناطق بأبجدية الضاد ، تقدم الشاعرة السعودية / بديعة كشغرى ديوانها : ( لست وحيداً ياوطنى ) لتقرر – منذ البداية – انحيازها للوطن ، اذ هو الملاذ للدفء ، ولتبديد وحشة وحدتها يين أوتوا بكندا ، وبين بيروت وباريس وجدة ، ذلك المرفأ الأخير الذى هاجرت منه الى بلاد الثلج والضباب ، بعيداً عن الدفء ، وليالى جدة الساحرة . ان هذا الانحياز الأولى – فى العنوان والاهداء – يحيلنا الى صوت أنثى ، واهن وضعيف ، والى صورة وطن سليب ، لايستدعى الشعر ، بل يتطلّب السلاح ، كما قال / محمود درويش – عبر تضمينها لمقطع من قصيدته فى التوطئة - ، يقول درويش : لاتكتب التاريخ شعراً فالسلاح هو المؤرخ والتاريخ يوميات أسلحة مدونة على أجسادنا . ( الديوان : ص 8 ) . كما نراها – عبر التوطئة أيضاً – تصافح الشاعر الانجليزى / " دون جون " فى قوله : قال الله ليكن نوراً فكان النور ، وقال الانسان ليكن دماً فكان بحراً من دماء .، وكذلك ماقاله : " وينستون تشرشيل عن عدمية الحرب ، أو ماقالته أغاثا كريستى فى مسألة كارثية كسب الحرب أو خسارتها ، أو على حد مقولة : " أنديرا غاندى " : ( لا نستطيع أن نتصافح وقبضتنا مغلولة ) ، وبهذه التضمينات ، والعنوان الدّال نلج الى مصافحة الديوان ، لنقف الى شاعرة تتدفّأ بسديم الوطن من جحيم الغربة ، وتماهى سهوب العذاب بأمل مشرق ( عند فاتحة الوطن ) ، تقول : بيدى أردتك أن تكون كما أردتك يازمن تاجاً كشمس الله مملكة لعتقى.. نهراً تهلّ منابع دفقه من سحر شرقى درباً يبادلنى تفاصيل التّولّه واحتمالات الشجن . ( الديوان : 9- 10 ) . انها تكتب بيد مرتعشة ، وقلب آسن ، ملىء بالشجن والخوف على ذلك الوطن المعشوق ، حيث تتولّه فيه كصوفيّة ، تتدلّه بالحب والعشق والدلال ، يقلقها شجن الضياع ، ويعلوها اغتراب لانهائى لضباب يسود عالمنا العربى من المحيط الى الخليج ، تقول : طال الطريق ومبتغى دربى يلوّح بانبلاج الصبح ، قد عزّ الكلم ليت النوارس تستفيق معى لتحط ّ بى زفراتها عند فاتحة الوطن . ( الديوان : ص 11 ) . انها تكتب بخوف وقلق ، لذا جاءت جملها مقتضبة / قلقة / خائفة ، كحالتها الصامتة تماماً ، لذلك لن نقف عند الاحالات العروضية – بداية – بل سنركز على مضمونية الديوان وعلاقات أنساقه ، دون الدخول الى معاضلات العروض بتداخلاتها الموسيقية ، وانتقالاتها الفجائية ، وربما الصادمة ، لكننا ازاء تجربة الوطن ، والقلق ، والغربة ، لذا سنمضى معها فى تصاويرها الجمالية ، مستعيضين بالصورة عن التراتب ، وبالتواتر الاحالى لموضوعة المضمون / الوطن لنقف أمام شاعرة تغزل من صوف قلبها الحانى شالاً حريرياً ليتدفأ صدر الوطن ، وقلبه الواهن ، كقلبها الشفيف ، تقول : نمضى : أسياج المشهد يجمع قلبينا أم مئذنة تراتيل تستصرخ فى هذا " المنفى " معنى الأوطان ؟ لكنّى – مثل بكاء النخلة – أتّشح بصمتى كى لاتنزف حنجرتى برماد كلام هو أشبه بالهذيان.. هـ .. ذ .. ى .. ا .. ن .. هـ ذ ى ا ن هـ .. ذ .. ى .. ا .. ن . انها تصرخ اذن فى بريّة العالم / فى المنفى لتسأل عن معنى الأوطان ، والغربة ، وهى أسئلة استنكارية / رافضة / تشجب ، وتدمع مع دموع النخيل ، وتتوشّج الصمت ، لتخفى النزيف ، الممتلىء بالحسرة ، وبرماد الكلام الذى يشبه الهذيان الرافض لاستعباد الانسان ، وكبت الحرية ، وقتل الأطفال ، وتلك الصور تصيب ربما بالجنون ذلك ، خاصة عند السؤال عن الماهية الكبرى لمعنى الوطن ، التى يقابلها لديها : الغربة ، الصمت ، الوحدة ، الخوف ، الضياع ، الهذيان ... ألخ . ان هذا الهذيان ممتد ، لذا نراها تبعثر حروفه – عبر الصفحة البيضاء – وتكرّره ، وهذه التكرارية تثبّت المشهد – الجنائزى – الرافض والمحمّل بخجل العالم ، فكما أن النخيل الشامخ يبكى ويكتم دموعه فى الصمت ، نراها يكاد يقتلعها الهلع والخوف على الوطن ، ورفض الواقع المعيش لصورة الوطن الكبير / الأوطان / فى قلبها الواهن الضعيف الذى رأته متهدّماً ، غائماً مع الضباب ، لذا نراها تهرب اللى الميثولوجيا ، وتستدعى الأسطورة ، حيث " انليل " فى قصيدتها : ( ميثولوجية شخصية ) والتى أهدتها الى كوكب الأرض – حيث نرى " انليل " حزيناً ، وهو سيد الهواء ، ورئيس مجمع الآلهة السومرية – الذى تبحث معه ، وتحفر بفأس الأبدية عن صلصال وجودها / الوجود العربى ، تبحث عن أصل الهويّة لقمح الحب ، وأغنيات السلام . وفى استدعاء الأسطورة ، والهروب الى الميثولوجيا والرمز جمالية ، وحذف ازاحى ، يكشفان عن مثاقفة أفادت فى تسيير النسق الهارمونى ، دون أن تكون مقحمة على المعنى المضامينى / البنيوى كذلك ، وهو تثاقف ترميزى ، يفيد الشّعريّة ، ويحمّلها بدلالات رامزة تكشف عن البنية العميقة للغة الديوان ، وللفضاء الكونى الشعرى المنثال داخله ، تقول : أنا من أبهج " انليل " ومنحه ابتهالات الكشف عند نقطة بين السماء والأرض .. تضافرنا معاً لاقتفاء صلصال وجودنا مثل اكليل توّج به باذخ أحلامنا هى الفأس بأيدينا أطلقناها تعمر دروباً فى جذوع الشجر منها نملأ السّلال بقمح الحب وأغنيات الياسمين شريدة أنا اليوم كأحداق الرمل الساهر فى نشيج تاريخه شريدة أتوغّل فى أناشيد " دلمون " أستجيرك انليل وأزدان بشموخ فأسك الذهبية وشماً على جسدى أطرّز وردها كمن يحترق فى تراث البدء أستقرىء نصوص ما بين النهرين : علّنى أعود لقرون خلت كى أولد ثانية لا لأوارى سوءاتى بل لأتنفس رحيق هواء يمنحنى طعم حياة أخرى وأسبح فى لجّة مياه تعيد للأرض الميتة خصب أحلامها وللقلب فاتحة ملكوته . ( الديوان : 55-56 ) . انها قيامة الحب والعذاب ، مع " انليل " و " دلمون " ، الا أننا نلمّح الى استخدامها ( أسلوب الالتفات ) للتّدليل الى الذات / الوطن : ( شريدة أنا ) وهذه الجملة الاحالية للذات نقلتنا من ديمومة الميثولوجيا ، الى فضاء الذات ، فهى أسطورة للذات صنعتها وحدها / أسطورة خاصة ، من أجل الوطن ، فنراها تعبر بنا عبر نصوص بابل الى الوجع السومرى ، الذى يتجدّد بالوجع المعيش ، وتلك احالية لاعادة الولادة ، وتجدّد الأمل ، كما تفضح كذلك وتثور على الارث العربى للتقاليد القديمة فى مسألة ( وأد البنات ) : " كى أولد ثانية / لا لأوارى سوءاتى ) ، وفى هذا تناصّ احالى للآية القرآنية : ( أيمسكه على هون أم يدسّه فى التراب ) صدق الله العظيم . ويتشابه هذا الموقف الاحالى مع قصيدتها ( واذا سئلنا ) وكأنها تعيد انتاجية الدلالة ، لتأتى بمضامين ضافية ، تعكس الوضع المجتمعى الراهن ، وتنقلنا الى المتن الاحالى للرمز ، تقول : واذا سئلنا بأى ذنب نقتل كل يوم وبأى اثم يواجه " طفلنا " حلك الظلام . ( الديوان : ص 43 ) . كما نلحظ ذاك التناص الاحالى فى قصيدتها : ( اليوم يشىء ) ، تقول : قل جاء الحق وزهق الشعب وتوسّد عرش الهون الصعب . فهى تصوّر الشعب بأنه ( الباطل ) ، وذلك اشارة الى التناص الاحالى لموقف النبى (ص ) ، وهو يهدم أصنام المشركين فى الكعبة قائلاً : ( جاء الحق وزهق الباطل ، ان الباطل كان زهوقا ) . ويجىء تشبيهها للشعب / الصّنم / الصامت ، من باب التشبيه الاحالى أيضاً ، أو ( التّماثل ) والتّقارن ، والتّضام ، أو هو التّناص الذى يستتبع وجوده احالية لصورة الأصنام / كالشعوب الصامتة الناظرة للاستعمار وهو يفتك بها ، دون أن تبدى حراكاً ، وهو تناص أو تماثل وتقارن – فيما أحسب – قد اثرى الشّعريّة - هنا - بدواله ومدلولاته الكامنة ، وباحالاته الاشارية الرامزة / العميقة . ان أطفال فلسطين ، وقانا ، وسوريا ، ولبنان ، والعراق ، وكل أطفال العالم كذلك ، أولئك الزهور ، تراهم وتصوّرهم ، وتبكى لمشهديّة دموعهم البائسة – عبر قصائدها -، وهى المهاجرة المقيمة ، المتلفّعة بالخوف / الغربة ، تتماهى معهم فى حاجاتهم للدفء ، والحب ، والحرية ، والأمان ، فى أوطان يشعّ فيها النور ، ويزهر الأقحوان ، لكن ترانا نراها قلقة / مقيمة / مهاجرة ، تهجر الوطن ، وتسوح فى العالم ، فيهاجر لها الوطن ، أو يسافر فى دمها ، تتركه مكانيّاً ، وهو معها فى حجرتها / غربتها ، تتنازعها الاقامة والغياب ، وفى قصيدتها : ( أقيم ولا أقيم ) نلمح قلقاً وجودياً ، وافقاً ابستمولوجيا لسماء مفعمة بالتراتيل ، وقلب متلفّع بالحب ، وبالنزوع لدفء الوطن ، ليقيها الاغتراب ، تقول : وطن التراتيل التى تهاجر فى دمى أودعت وجهى عند ميقاتك حين غادرت .. الهاويات رأيتها تهوى دمها ينازلنى وأنا أسافر عند أطياف السديم . ( الديوان : ص 67 ) . انه وطن يهاجر فى دمها / يملكها ، وهى تودّع وجهها عند ميقاته ، لتعود اليه ، فقد تلبّسها حين الغياب ، وقد اشتاقها وقت الاياب ، فهى متصدّعة تهوى من شاهق ، الى شاهق ، دمها ينزف ، لكنها تسافر فيه حتى النهاية . انها أدبيات عشق الوطن ، أدبيات المقاومة والصمود والتحدّى للحروب والدمار ، للسلاح الذى أغرقنا فى بحار الدماء التى تحدث عنها الانكليزى : " جون دون " ، وتحدثت عنها الأراضى التى تخضّبت بطوفان الدم البشرى من جرّاء الظلم والاستعباد ، فهى تطمح للسلام والحب ، ترفض الهولوكست ، والقنابل ، والآلة العسكرية ن التى تجلب كل هذا الدمار النفسى ، والواقعى ، للمدن ، والأوطان ، ترفض سجون " أبو غريب " بالعراق ، ومذابح قانا وقتل أطفال غزة ، والجولان ، بل وأى طفل ، أوامرأة ، أو شيخ ، أو انسان ، من جرّاء الظلم ، والاستعمار بوحشيته وجبروته ، وأسلحته ، وقنابله ، ومجنزراته الشوهاء . انها تنشد السلام العالمى ، والسلام فى أرض العرب ، كى تهتزّ أغصان الزيتون بالحرّية ، وتطير حمائم السلام ، التى تطلقها الشاعرة ، لتعبر بغربتها وألمها الى أحضان المعشوق / الوطن .. العالم .. الانسان . هذا ولايخلو الديوان من التّثاقف ، والعلميّة ، التى تستظهر فيها الشاعرة معارفها السابقة على النص ، ويتجلّى ذلك ونحن نراها تفضح " صموئيل هينتجون " فى نظريته عن " صراع الحضارات " ، فنراها تذهب الى سجون " أبو غريب " بالعراق ، والى " جوانتانامو" ، وربما سجون " أشكيلون " و " وتل أبيب " ، وكل السجون التى أذاقت الانسان العربى المهانة ، والتى أفقدته الحرّية والكرامة . انها تبحث عن الحب ، وترفض الحرب ، والسلاح ، والقتل والدمار ، ترفض الامبريالية ، والصهيونية الاستعمارية الفاشستية : فى فلسطين ، والجولان ، وقانا ، والعراق والجولان ، ولبنان ، بل ترفض الدمار العالمى والحرب ، وتدعو لعودة الارادة العربية واستنهاض القومية والعروبة ، تقول : فيا وطن اللّغات التى فاضت اذا نطقت ستبقى بحّتى صوتك وفى أفياء صحرائك هبوب دمى يهزّ بروق صاريتك على أكتاف نخيلك الممتد فى شمم . ( الديوان : ص 106 ) . انها تنشد الحب والسلام ، لترتفع الصوارى العربية ( الأعلام ) مرفرفة فوق مزارع البرتقال ، وبيّارات الورود التى تغنّى كلمات الحرية ، ونغنى معها جميعاً - حينها - قائلين : انى نذرت لصحوك المطرىّ أغنيتى وعدت ترفّ اليك أجنحتى وفى صدرى مواجيد تشفّ ببوح أشجانى فأنت الروح اذ شهقت وأنت العوسج الضوئىّ فى منفاى فى لغتى وأنت البوح ... أنت الجرح ما اهتزت لغصّته سوى أغصان ساقيتى وأحلامى . ( الديوان : ص 107 ) . ان الشاعرة / بديعة كشغرى قد صدقت فيما أعلنته – منذ البداية – بأن الوطن ليس وحيداً ، كما أنه فى غربتها نراه يسكن غرفتها ، وهو وطن نشر جناحيه على العالم ، وعلى ذاتها بالحب . ان حب الوطن هو المعادلة الكبرى ، وهو الملجأ والملاذ والدفء ، يسير مع الدماء فى نهر العروق ، ننشد فيه الأمان ، ونشعر بالحرية ، ونضحّى من أجله بكل غال وثمين . ان الشاعرة / بديعة كشغرى ، قد غاصت فى حب الوطن حتى النّخاع ، كتبت عن آلامه / آلامنا ، عن وطنها ، وغربتها بعيداً عن مدينتها " جدّة " ، وعن غربتها وغربتنا فى ضياع الأوطان ، من جرّاء ذلك الاستعمار الذى ننشد له الزوال جميعاً . نحن – اذن - بازاء معشوقة حالمة ، أو " رابعة عدوية " - جديدة - تتبتّل فى حب الخالق ، والوطن ، والعالم ، والكون ، والحياة . منقول للفائدة